بيتر نعمه : هِجرةُ مبدع ٍ إلى ضفاف البوسفور
الاحداث - واشنطن - كتب رشيد قيامي
الكتابة عنه ممتعة ٌومحيّرةٌ في الوقت نفسه. ممتعة ٌ لأنّها تتناول الموسيقى وعالمها الساحر. ومحيّرةٌ، لأنّك لا تعرف من أين تبدأ، ولا أين ومتى ستنتهي.
هو بيتر نعمة، إبن بلدة دير القمر الشوفيّة في جبل لبنان. موهبة ٌ فذّة في عالم الموسيقى، لم تلقَ ، كما الكثير غيرها، ما تستحقّ من رعاية واحتضان واهتمام من قبل الدولة اللبنانيّة، فبقي الكثير من الإنجازات مقتصراً على مجهود فردي، أنهكته ظروف الوطن المتعثّر والنكسات المتكرّرة على مدى سنوات طويلة.
الموسيقى رئته وقلبه وعقله وعالمه الذي يعيش فيه ومن أجله، منذ بدأت أصابعه تداعب آلة الكمان وهو لم يبلغ الثالثة من العمر بعد.
هي لحظة ٌ غيّرت مسار حياة وفجّرت طاقةً من العطاء الموسيقي تبلورت مع مرور السنين.
لا نبالغ القول بأن الرجل فريدٌ في مجاله، عزفاً وتدريساً وبحثاً وابتكاراً وسعة معرفة. لا على مستوى الوطن الصغير ، بل على مستوى العالم. فما من آلة موسيقيّة معروفة تصعب عليه، حيث وصل عدد الآلات التي يتقن العزف عليها إلى ٤٦ آلةً. أمّا إلمامه في مجال صناعة الآلات الموسيقيّة فدفعه إلى خوض مغامرة التصنيع الإحترافي، وتسجيل علامة تجاريّة في لبنان تحمل إسمه (Peter’s).
الموسيقيُ الشغوف الذي وُصِف يوماً بالكونسرفاتوار المتنقّل، كان أنشأ في منطقة بعقلين الجبليّة البعيدة عن الضوضاء، محترفاً أشبه بصومعة ، ضمّ مجموعة مميّزة من الآلات العالية الجودة.
في صومعته تلك، إنكبّ بيتر نعمه على التأليف والإبتكار والغوص في دراسة أدقّ تفاصيل عدد كبير من الآلات التي عمل على تصنيعها.
تلاميذ كثر قصدوا تلك الصومعة ليغرفوا من سعة اطّلاع ذلك المتنسّك للموسيقى وسحرها.هو الذي لا يُسأل في شأن موسيقي أو عن آلة محدّدة، إلّا وتلقى لديه جواباً شافياً وافياً.
طموحه اللامحدود دفعه للتعمّق في البحث وإعادة إحياء آلات كانت أصبحت منسيّة مع مرور الزمن ( الطنبورة، الكافال…)، كما لابتكار آلات وتطوير أخرى مع المحافظة على خصوصيّة كلّ منها.
الموسيقى التي بقيت تصدح في بيروت في أحلك ظروف الحرب وأدقّها تعقيداً، وإن بأشكال وألوان مختلفة، معلنة ً الإنحياز للأمل والحياة، رضخت أخيراً أمام واقع البلاد المأساوي. فثورة ١٧ تشرين وما رافقها من أحداث أمنيّة ، وانفجار مرفأ بيروت وتداعياته، شكّلا منعطفين سلبيين بارزين للحركة الفنيّة في لبنان بشكل عام، ومن ضمنها قطاع الموسيقى. كما ساهمت جائحة كورونا وما رافقها من إقفال متكرّر، إضافة إلى الأزمات السياسيّة والماليّة التي عصفت بالبلاد، في ضرب أخر محاولات قطاع الموسيقيين للنهوض من جديد.
لم تعد الموسيقى تُفرح قلوب اللبنانيين، فتأمين قوتهم اليومي أصبح الهاجس الوحيد. كما لم تعد الموسيقى تسكن شبابيك بيوت المدينة الساهرة حتّى شعاع الفجر، والمستيقظة مع أهلها الطيّبين على صوت فيروز يصدح من أزقتّها العتيقة.
إنكسر حلم بيتر نعمه في بيروت وانسدّت في وجهه آفاق الإستمرار، بعدما أُغرق الوطن الصغير في هموم وقضايا هي أكبر من أن يتحمّلها. ولم تعد الموسيقى ملجأ اللاهثين وراء لقمة العيش ومتنفّسهم الطوعي، فهاجر إلى اسطنبول، لا ليُحتَضَن من قبل السلطات فيها ، بل ليحتَضِن أحلامه، التي يأمل أن يحوّلها إلى ابتكارات، بعدما تبعثر الكثير منها في متاهات وطن ٍ،لم يأبه يوماً للإبداع والمبدعين.