Search Icon

طريق لبنان مسدود بين موت بطيء وأفق مفتوح على العواصف

منذ 5 ساعات

أقلام حرة

طريق لبنان مسدود بين موت بطيء وأفق مفتوح على العواصف

الاحداث- كتب أنطوان العويط

لم تكنِ الزّيارةُ الأميركيّةُ إلى بيروتَ تفصيلًا عابرًا في دفترِ المواعيدِ الدبلوماسيّة، بل أشبهَ بجرسِ إنذارٍ دوّى في لحظةٍ حرجةٍ من تاريخِ وطننا المنكوب. فهي لا تُشبهُ ما سبقها، لا في الشّكلِ ولا في المضمونِ، ولا حتّى في تركيبةِ الوفدِ الذي ضمَّ خمسَ شخصياتٍ وازنةٍ من إدارةِ الرئيس ترامب والكونغرس، في دلالةٍ واضحةٍ على أنّ واشنطن رفعت منسوبَ اهتمامها بالملفّ اللبنانيّ، وأدخلتهُ إلى صلبِ أولويّاتِ أجندتها في المنطقة.
ما ميّزَ هذه الجولةَ، في الشكل، أنّ الأميركيينَ اعتمدوا خطابًا صريحًا ومباشرًا، وأحيانًا فجًّا، بعيدًا عن التوريةِ والمواربةِ والرسائلِ المبطّنةِ والمشفّرة. أمّا في المضمون، فقد أعادوا الكرةَ إلى الملعبِ اللبنانيّ من دون أيِّ التباس، على الرغم من القراراتِ المفصليّةِ وغيرِ المسبوقةِ التي اتّخذتها الحكومة. فلا ضماناتَ بانسحاباتٍ إسرائيليّة، ولا بوقفِ الاعتداءات، قبل حسمِ معادلةٍ واحدةٍ عنوانُها نزعُ سلاحِ "حزبِ الله".
بهذا المعنى، بدا المشهدُ أقربَ إلى صيغةٍ مغلقةٍ، لا تحتملُ التأويلَ. إمّا استجابةٌ كاملةٌ لمطلبِ واشنطن، وإمّا انسدادٌ كاملٌ في كلِّ مسارٍ آخر. إنّه عرضٌ بلا بدائلَ، وخطابٌ بلا هوامشَ، يضعُ لبنانَ أمام خيارٍ واحدٍ لا يقبلُ التعدّدَ في القراءاتِ ولا مساحةً للمناورةِ.
أمّا المفارقةُ الأبرزُ في الزيارةِ، فتكمنُ في ما حملته من عناوينَ مبتكرةٍ لم تعرفها الدبلوماسيّةُ اللبنانيةُ في علاقتها التاريخيّة مع الدولة العُظمى. فمن مقترحِ إقامةِ منطقةٍ اقتصاديةٍ حدوديةٍ كبديلٍ عن المنطقةِ الأمنيةِ العازلة، تُستدرَجُ إليها الاستثماراتُ الخليجيّة وتُفتحُ من خلالها أبوابُ العملِ أمامَ الجنوبيّين، إلى طرحِ معاهدةٍ دفاعيةٍ مع واشنطن تُسوَّقُ كضمانةٍ لحمايةِ التنوّعِ الدينيّ في لبنان، تجلّى الأمرُ وكأنّه انتقالٌ إلى لغةِ الإغراءِ.
لكنّ هذه الوعودَ، مهما بلغت جاذبيّتُها، لم تنجح في حجبِ التبايناتِ التي طغت على اللقاءاتِ في بعبدا، كما في السرايا وعين التينة، بين ما تطالبُ به بيروت وما تُصرّ عليه واشنطن.
وقَبْلَ اختتامِ الوفدِ الأميركيّ زيارته، كانت الصورةُ الراهنةُ للمواقف قد تبلورت. فقد نسَفَ "حزبُ الله" مبدأَ "خطوةٍ مقابلَ خطوةٍ"، وأعلن جهارًا أنّه لن يتخلّى عن سلاحِه، فيما تُصِرُّ إسرائيلُ على أنّها لن تُقدِمَ على أيِّ إجراءٍ تنفيذيّ قبل تجريدِ الحزبِ من سلاحِه. وفي قلب هذا التناقض، تتمسّك الحكومةُ اللبنانيّةُ بقرارها حصرَ السلاحِ بالشرعيّةِ، وعدم العودةِ إلى حالةِ المساكنةِ مع سلاحِ "حزبِ الله"، فلو خالفت ذلك، ستفقدُ مبرّراتِ وجودِها، وكلَّ أملٍ في بناءِ دولة، وما حظيت به حتّى الآن من ثقةٍ ودعم على المستويين الداخليّ والخارجيّ.
هكذا، جرى تثبيتُ حلقةٍ مفرغةٍ قديمةٍ ـ جديدة، تُعيدُ لبنانَ مرّةً أخرى ساحةً لتعقيداتٍ هائلة، وعنوانًا لأزمةٍ مفتوحةٍ على كلِّ الاحتمالات. 
وها نحن أمام مأزقٍ ثلاثيِّ الأطرافِ، لا يُفتَحُ إلاّ على مآلاتٍ أشدَّ خطورةً، ومحكومٌ بالتعسُّرِ لا بالانفراجِ. ولن تكونَ الجلسةُ المرتقبةُ لمجلسِ الوزراءِ مطلعَ أيلولَ، المخصّصةُ لمناقشةِ خطةِ الجيشِ حول حصريةِ السلاحِ، سوى محطةٍ إضافيةٍ في مسارٍ متعثرٍ، يعكسُ عمقَ الانقسامِ الداخليِّ والتبايناتِ مع الضغوطِ الخارجيةِ.
هَذا النفقُ المظلمُ يفتحُ البابَ أمام أبعادٍ متأزّمةٍ محتملةٍ، قد تسلك أحدَ شكليْنِ: إمّا تصعيدٌ إسرائيليّ مستبعد عبر رفعِ مستوى الضغوطِ العسكريةِ، وتكثيفِ الغاراتِ، وربّما استهدافِ المستوى السياسيِّ في "حزبِ الله"، أو تصعيدٌ متوقَّع من جانبِ الحزبِ، موجّهٌ نحو الحكومة، بعد أن أُغلقَ أمامَه بابُ الحربِ غيرِ المتكافئةِ مع إسرائيل، وقد باشرَ فيه بشكلٍ سافرٍ.
وفي حالِ حصولِ التفاقمِ الداخليِّ، فقد يتحرّكُ بينَ حدّيْنِ: إمّا إحداثُ فوضى داخليّةٍ، أو الانزلاقُ نحو صداماتٍ - هل تبقى سياسيّة - في وجهِ الحكومةِ التي صنّفها الحزبُ "حكومةً معاديةً"، "متخوِّفًا" مِمّن هم على رأسِ السلطةِ التنفيذيّةِ من "جرِّ لبنانَ إلى حربٍ أهليّةٍ" و" زجّ الجيش الوطنيّ للوقوف بوجهِ أهلِه وشعبِه..."رغمَ مشاركتِه فيها.
الثابتُ وربّما الأرجح، وخارجَ أيّ توتيرٍ محتملٍ، هو إبقاءُ الستاتيكو القائمِ في هذه المرحلةِ، بحيث يبقى قرارُ الحكومةِ بشأنِ حصريةِ السلاحِ معلّقَ التنفيذِ، لكنه في الوقتِ نفسه يكرّسُ فكَّ ارتباطِ الدولةِ عن الحزبِ ونزعَ الغطاءِ الشرعيِّ عنه.
في هذا الإطار، تبدو إسرائيلُ أكثرَ ارتياحًا من أيِّ وقتٍ مضى. والأهمُّ بالنسبةِ إليها، أنّ السلاحَ تحوّلَ من مشكلةٍ إسرائيليّةٍ إلى مشكلةٍ لبنانيةٍ داخليةٍ تهدّدُ مسيرةَ الدولةِ ومستقبلَها. لذلك، لا تبدو تل أبيبَ في واردِ الانخراطِ في حربٍ واسعةٍ مع الحزبِ، خصوصًا في ظلِّ انشغالها في "حربِ غزة"، وما دامت ترى خصمَها غارقًا في أزماته.
ويبقى السؤالُ: إلى أينَ؟ جمودٌ طويلٌ قد يرهقُ الدولةَ، تصعيدٌ محتملٌ قد يفتحُ بابَ الانفجارِ، أو صفقةٌ مؤجّلةٌ تنتظرُ مائدةَ المفاوضاتِ الكبرى بين واشنطنَ وطهران، حيث يصبحُ سلاحُ الحزبِ ورقةً في سلّةِ النوويِّ والنفوذِ. 
في هذا الانتظارِ المعلَّقِ، يتأرجحُ لبنانُ بينَ موتٍ بطيءٍ وانفجارٍ محتملٍ، كأنَّه يسيرُ على جمرٍ حارِقٍ، لا يملكُ ترفَ الرجوعِ، فهل يكونُ التقدُّمُ خيارهُ المقبلَ؟ مشهدٌ يختصرُه عنوانٌ واحدٌ: طريقٌ مسدودٌ… بأفقٍ مفتوحٍ على العواصفِ.