لو أنّه "سيّد نفسه"
الاحداث - كتب عقل العويط
في اليوم الأخير من العام 2023 الجاري، وقبيل انصراف الناس إلى سهراتهم (البغيضة تحديدًا) لاستقبال السنة الجديدة، سأزور، بتواضعٍ دلاليّ ورمزيّ، النائب الذي لا يزال يداوم في القاعة العامّة لمجلس النوّاب منذ 19 كانون الثاني 2023، على أمل حضّ زميلاته وزملائه ورئيس مجلسهم على الانعقاد في جلساتٍ مفتوحة لانتخاب رئيس للجمهوريّة، تطبيقًا لأحكام الدستور اللبنانيّ في هذا الشأن الحسّاس والجوهريّ والملازم لحسن سير شؤون الدولة وانتظام عمل سلطاتها ومؤسّساتها.
موقف النائب ملحم خلف الذي بدأ مشتركًا مع زميلته نجاة عون، لم يفض حتّى اللحظة إلى تحريك المياه الدستوريّة والنيابيّة الآسنة. وليس ثمّة في الأفق ما يؤمئ موضوعيًّا على المستوى الوطنيّ والسياسيّ الداخليّ، إلى أنّ نورًا سيقذفه الله (أو أحدهم؟!) في صدر هذا المجلس، ليأخذ بيده، من طريق وعي مسؤوليّته، أو من طريق الانتفاض لكرامته، أو من طريق الوحي، أو من طريق الإملاء، إلى الصندوقة التي يجب أنْ تدور على النوّاب دوراتها اللّامتناهية إلى أنْ يطلع الدخان الأبيض من داخون مقرّهم الذليل في ساحة النجمة.
عدم (بل منع) انتخاب الرئيس (بالخرق الجائر للدستور) ليس سوى "تجلٍّ" من "تجلّيات" المأزق اللبنانيّ، الذي بات وجوديًّا ومصيريًّا وتكوينيًّا.
أخطر ما ينطوي عليه هذا المأزق أنّه موصولٌ بطريقةٍ عضويّة ومأسويّة بالمَحاور والأحلاف والحروب والمجازر والمآسي والمصالح والمخطّطات ومشاريع الخرائط التي تعصف بالعالم، ولا سيّما في منطقتنا العربيّة والشرق الأوسطيّة.
هذا واقعٌ جيوسياسيّ لا مفرّ منه. لكنّ أخطر الأخطر، أنّ بلدنا الصغير فاقدٌ المناعةَ التي من شأنها لو كانت متوافرة، أنْ تؤمّن له مقوّمات الحدّ الأدنى من الوقوف والصمود في وجه العاصفة.
لماذا هو فاقدٌ المناعة؟ الأسباب كثيرة ومتشعّبة، وليس هذا المقال مجالها التحليليّ والنقاشيّ الحيويّ.
غير أنّ أبشع ما يميّز فقدان المناعة هذا، أنّنا نحن "مأوى" هذا الفقدان و"بيته"، من أسفل الهرم إلى أعلاه.
وها هنا، يعزّ عليَّ، كمواطن، أنْ لا نكون نحن اللبنانيّين "شعبًا". لو كنّا "شعبًا"، لما كان في مقدور أيّ جريمةٍ دستوريّة، كجريمة عدم انتخاب رئيس، أنْ تطلّ برأسها.
وها هنا، خصوصًا، كم يضطلع سلاح "حزب الله" المادّيّ والمعنويّ في الإخلال بالفلسفة التي ينهض عليها مفهوم "الشعب"، وفي الحؤول، مع حلفائه، ولا سيّما "التيّار الوطنيّ الحرّ"، دون إنجاز هذا الاستحقاق.
ليس هذا بالطبع هو السبب الوحيد، على كلّ حال، لانحلال مفهوم "الشعب"، ولمنع انتخاب رئيس. حسابات أمراء الطوائف والأحزاب، ومصالحهم، وحقاراتهم، ووطاواتهم، وأحقادهم، كم سافلة وصغيرة أمام هول الخطر الوجويّ اللبنانيّ.
وكم يعزّ عليَّ، كمواطن، أنْ لا نكون نملك سلطةً تشريعيّةً تشرّف وجودنا وتحفظ كرامتنا وتصون مناعتنا وتستشرف مستقبلنا، وتقترح الحلول المنجّية، وإنْ متواضعةً وخفرةً و... مرحليّة، أو موقّتة.
مجلس النوّاب، الذي هو نظريًّا بيت الشعب بامتياز، وصمّام الأمان، ومصدر السلطات، بات على المستوى العمليّ رمزًا فادحًا للمقتلة اللبنانيّة المستمرّة.
"سيّد نفسه" كم كان ليكون مشرّفًا لو أنّه "سيّد نفسه".
ضوءٌ خافتٌ واحدٌ ويتيم، من شأنه أنْ يصنع فارقًا. فليكن كلٌّ منا، على طريقته، مساهمًا متواضعًا في "منعة" هذا الضوء.