Search Icon

سياسة ارتجالية لضبط سعر الصرف والتضخّم: مصرف لبنان «يعقّم» النقد

منذ 7 ساعات

من الصحف

سياسة ارتجالية لضبط سعر الصرف والتضخّم: مصرف لبنان «يعقّم» النقد

الاحداث- كتب ماهر سلامة في صحيفة الاخبار يقول:"في السنوات الخمس الماضية تحوّلت الكتلة النقدية إلى واحدة من أهم العوامل التي تحكم سلوك الأفراد والمؤسّسات، إذ أصبحت الأداة الأهم، وربما الوحيدة، التي يملكها مصرف لبنان في السوق.

وقد جاءت هذه الأداة لتُظهر بوضوح عودة هيمنة السياسة النقدية الرامية إلى تطويع السياسة المالية، إذ إن اتّساع أو ضيق حجم الكتلة النقدية يدلّان مباشرة على مستوى التحكّم بسعر الصرف الذي يمارسه مصرف لبنان عبر هيمنته على السياسة المالية.

فممنوع على وزارة المال أن تضخّ سيولة في السوق أكثر من الهوامش التي تسمح لمصرف لبنان بتثبيت سعر الصرف. وضخّ السيولة يعني تسديد الفواتير التي يقابلها حركة إيرادات. بمعنى أوضح، أصبحت حركة الإيرادات والنفقات من الخزينة مرتبطة بأهداف السياسة النقدية الرامية إلى «ثبات» سعر الصرف.

سجّل حجم الكتلة النقدية في التداول تحركات كبيرة في السنوات الأخيرة. وكان مسارها منذ نهاية عام 2019 تصاعدياً. وبلغت ذروة هذا التصاعد في حزيران 2023 لتصبح 81 تريليون ليرة في حزيران 2023. وكان مصرف لبنان يستخدم الكتلة النقدية كأداة لتمويل حاجة السوق الكبيرة للنقد. لكن في تلك اللحظة، طرأ تحوّل مهم على الاقتصاد اللبناني وبدأ «يتدولر» على نطاق واسع شمل الأجور وحركة البيع والشراء وأسعار الخدمات العامة والخاصة وغيرها، ما أسهم في انخفاض الحاجة إلى الكتلة النقدية وساعد في فتح المجال لمصرف لبنان لسحب السيولة من السوق وضخّها ربطاً بحاجاته.

وقد أتى مع ذلك كلّه، تصحيح جزئي لإيرادات الدولة، من ضرائب ورسوم، ما ترك حصّة سوقية صغيرة للتداول بالليرة، وذلك فقط لسداد الضرائب. فأسهمت هذه الظروف بتسهيل رغبة مصرف لبنان في سحب السيولة بالليرة وإعادة ضخّها في السوق، لينخفض حجم الكتلة النقدية إلى نحو 49 تريليون ليرة في تشرين الثاني 2024.

عملياً، كانت هذه الآلية التي بدأ يعمل مصرف لبنان عبرها في السوق، وهي تمثّل محور سياساته النقدية وقلبها النابض. فالمصرف المركزي لم تعد لديه قدرة على التعامل مع سوق «مدولر» في اقتصاد تتزايد فيه العمليات النقدية أو ما يسمّى بـ«الكاش»، وهذا مجرّد طابق إضافي يلغي الأداة المصرفية التي أفلست أصلاً ولم تعد لديها قدرات يمكن توجيهها أو تحييدها نحو أهداف نقدية محدّدة كما كان يفعل سابقاً.

عادت الكتلة النقدية إلى الارتفاع لتسجّل في منتصف حزيران 78 تريليون ليرة


ورغم ثبات سعر الصرف على 89500 ليرة وسطياً مقابل الدولار، إلا أنه في الأشهر الأخيرة عادت الكتلة النقدية إلى الارتفاع لتبلغ 78 تريليون ليرة في منتصف حزيران الماضي. وهو ما أثار الكثير من التساؤلات بشأن جدوى وأهداف هذه الأداة النقدية في التعامل مع السوق. لكن يظهر أن لهذه الأداة مرونة تتيح لمصرف لبنان هوامش من الحركة ضمن ما يمكن تسميته «تعقيم» النقد الموجود في السوق. هذه العملية تهدف إلى الحدّ من تأثير السيولة الموجودة في السوق في التضخّم أو في سعر الصرف.

وتتم هذه العملية عبر سحب النقد من السوق، إلا أن هذا الأمر لم يكن عمل المصرف المركزي فقط، بل استُخدمت فيه السياسة المالية التي دعمت السياسة النقدية في المدة الأخيرة. وهذا يمر بوضوح في تقرير أُعدّ ضمن نشرة المرصد اللبناني الصادرة عن البنك الدولي والذي يشير إلى أن «مصرف لبنان مارس ما يشبه التعقيم بأدوات غير تقليدية، ومنع المؤسّسات العامة من تحويل الإيرادات بالليرة إلى دولار، وقام بشراء الدولارات بنفسه لتعزيز احتياطاته».

في الواقع، إن الدولرة النقدية السائدة في السوق اليوم، تعتمد بشكل أساسي على حجم الليرات التي يضخّها المصرف المركزي أو يعقّمها عبر منع دولرة ضرائب الخزينة بشكل أساسي. ففي ظل غياب أدوات نقدية فعالة، ومع انكفاء القطاع المصرفي، أجبر مصرف لبنان على ممارسات كهذه ليكون له دور في السوق يتيح له القيام بوظيفة صانع السوق. والكتلة النقدية قد تكون آخر أدوات السياسة النقدية المتاحة مقابل عجز الأدوات الأخرى التي تحتاج إلى قطاع مصرفي ناشط مثل أسعار الفائدة وسياسات السوق المفتوحة.

والأدوات المستخدمة اليوم لا تقوم بأي تحسينات هيكلية تسهم في استقرار الوضع، بل تعتمد على الإدارة الموضعية للأزمة، وهذا أيضاً واضح لدى البنك الدولي الذي يعتقد أن «الاستقرار النسبي لسعر الصرف في النصف الثاني من 2023 أسهم في تهدئة التضخّم، لكنه لم يعالج الأسباب الهيكلية، ومنها الحجم الهائل للكتلة النقدية المتداولة خارج المصارف».

في المحصلة، الكتلة النقدية في لبنان لم تعد مجرد أداة نقدية، بل أصبحت رمزاً للأزمة نفسها. كتلة من النقود تدور خارج قنوات الدولة، تعبّر عن فقدان الثقة، وعن انهيار العلاقة بين المواطن والقطاع المالي. وحتى باستخدامها كأداة نقدية، هي تخدم هدفاً لا فائدة منه، وهو استقرار سعر صرف لعملة لم تعد تهم من يتداول بها إلا لأنها الطريقة الأخيرة التي يمكنه التعامل عبرها مع الدولة.