الاحداث- كتبت ليلى حروق
في معظم دول العالم، يُعتبر المال العام أمانة في عهدة السلطة السياسية والإدارية، يُفترض أن يُدار بشفافية وكفاءة لخدمة المواطنين وتحقيق التنمية المستدامة. لكن في الكثير من الدول، لا سيما تلك التي تعاني من ضعف في الرقابة والمحاسبة، يتحول هذا المال إلى مورد سهل للهدر والاستنزاف، وتُصبح الإدارات مسرحًا لممارسات فاسدة تُكرّس ثقافة الإفلات من العقاب وتغذي الإحباط الشعبي.
يتخذ استنزاف المال العام أشكالًا متعددة تبدأ من التوظيف العشوائي على قاعدة المحسوبية، مرورًا بالصفقات العمومية المشبوهة، وصولًا إلى الهدر في المؤسسات العامة التي تتحول إلى عبء بدل أن تكون رافعة للخدمات. ويكفي التوقف عند بعض الأمثلة الواقعية: موظفون يتقاضون أجورًا دون أداء فعلي، عقود مبالغ فيها لترميم مبانٍ أو تنفيذ مشاريع لا ترى النور، وشراء مستلزمات بأسعار تفوق السوق بعشرات الأضعاف.
الفساد الإداري…
الفساد الإداري ليس فقط رشى صغيرة أو “خدمات” تُقدَّم لقاء تسريع معاملة، بل هو منظومة متكاملة تبدأ من غياب الشفافية في التعيينات والتلزيمات، مرورًا بتضارب المصالح، ووصولًا إلى سكوت الجهات الرقابية، إما لضعفها البنيوي أو لتواطئها. وغالبًا ما يتم التحايل على القوانين من خلال الالتفاف على آليات الرقابة، وتوظيف الثغرات في الأنظمة للنهب المنظَّم.
الفساد في لبنان… نموذج صارخ
لبنان يُعدّ أحد أبرز الأمثلة على هذا النمط من الفساد المزمن، حيث أُنهِكت الخزينة العامة لعقود بسبب الزبائنية السياسية، والهدر في مؤسسات الدولة، ونهب مقدّراتها تحت ستار التوازنات الطائفية. وقد شهد اللبنانيون فصولًا متكررة من الفساد في وزارات الطاقة، الاتصالات، الأشغال، الصحة، والاقتصاد، وغيرها من دون أن تتم محاسبة حقيقية.
وفي هذا السياق، يأتي توقيف وزير الاقتصاد السابق أمين سلام كمؤشر على بداية تحرك قضائي في ملفات الهدر والفساد. إلا أن هذا الإجراء، رغم رمزيته، لا يكفي. فالمطلوب ليس توقيف شخص واحد، بل مساءلة ومحاسبة جميع الوزراء الذين تعاقبوا على الوزارات وأساؤوا استخدام المال العام، من دون استثناء، وبعيدًا عن الحسابات السياسية والطائفية. العدالة الانتقائية تقتل ثقة الناس بالقضاء، وتكرّس منطق “كبش الفداء”.
التداعيات الخطيرة
النتيجة المباشرة لهذا الواقع هي تآكل ثقة المواطنين بالدولة ومؤسساتها. فعندما يرى المواطن أن المال العام يُهدر بينما يُطلب منه التقشف أو دفع الضرائب، تتكرس القناعة بأن الفساد هو القاعدة وليس الاستثناء. وهذا يولّد عزوفًا عن الانخراط المدني والسياسي، ويغذي ثقافة اللامبالاة أو حتى التمرد. كما أن الفساد يعطّل الاستثمارات، ويزيد العجز المالي، ويُعمّق الفجوة بين الطبقات، ما يهدد الاستقرار الاجتماعي.
مسؤولية جماعية وحلول ممكنة
مكافحة الفساد واستنزاف المال العام ليست مهمة الدولة وحدها، بل هي مسؤولية مجتمعية شاملة. تتطلب هذه المواجهة:
- تعزيز الشفافية من خلال إلزام الإدارات بنشر تقاريرها المالية وموازناتها.
- إطلاق يد القضاء وهيئات الرقابة ومنحها الاستقلالية والموارد اللازمة للتحقيق والمحاسبة.
- تبنّي الحكومة الإلكترونية التي تقلّل من الاحتكاك المباشر بين المواطن والموظف، وتحدّ من فرص الفساد.
- حماية المبلّغين عن الفساد وتوفير بيئة آمنة لهم.
- تعزيز التربية المدنية والإعلامية لتشكيل رأي عام ضاغط.
ويبقى القول إن استنزاف المال العام والفساد الإداري ليسا مجرد اختلالات تقنية، بل هما جريمة بحق الوطن وأجياله المقبلة. وفي لبنان تحديدًا، لم يعد كافيًا توقيف شخص أو محاسبة موظف صغير، بل لا بد من فتح جميع الملفات، ومحاسبة جميع المتورطين مهما علت مناصبهم، لأن لا إصلاح ولا قيامة للوطن في ظل الإفلات من العقاب. وحدها الإرادة السياسية الصلبة، المدعومة بضغط شعبي وقضاء نزيه، يمكن أن تعيد للدولة هيبتها وللمال العام حرمته.
وما يزيد الوضع تعقيدًا، هو أن المواطن اللبناني بات يشعر باليأس واللاجدوى، ليس فقط بسبب استشراء الفساد، بل لأن الأحكام القضائية – إن صدرت – لا تُنفذ في كثير من الأحيان نتيجة الضغوط السياسية والتدخلات من فوق. وهكذا تُفرغ العدالة من مضمونها، ويتحول القضاء إلى واجهة شكلية، تُصدر قرارات لا تجد طريقها إلى التنفيذ، ما يُكرّس الشعور بالعجز وانعدام الثقة بالدولة بكامل مؤسساتها.
وفي الختام وبعد كل ما تقدّم، لا بد من طرح جملة أسئلة:
لماذا لم تُفتح بعد ملفات الهدر الكبرى في الوزارات الأساسية، رغم وضوح المعطيات؟
هل يجرؤ القضاء على محاسبة “كبار الحيتان”، أم أن سقف المحاسبة سيبقى منخفضًا؟
وهل يمكن فعلاً بناء دولة حديثة في ظل بقاء منظومة الفساد التي تحكم من فوق القانون وتُفلت دائمًا من العقاب؟
كل هذه الأسئلة وغيرها، تبقى من دون جواب… في انتظار الأشهر والسنوات المقبلة.