الاحداث- كتبت سلوى بعلبكي في صحيفة النهار تقول:"بعد 6 أعوام على الانهيار المالي الذي هزّ لبنان، لا تزال الروايات تتقاطع وتتناقض حيال مصير أموال المودعين: هل ضاعت في "دهاليز" مصرف لبنان، أو التهمتها الكهرباء وسياسات الحكومات المتعاقبة وتمويل عجزها ودعمها؟
وفي خضم هذا السجال، عاد إلى الواجهة ملف شركة "أوبتيموم إنفست"، ليصبح عنوانا جديدا للمزايدات السياسية، وورقة تستخدم لتجديد الاتهامات ضد مصرف لبنان، وكأن الانهيار كله ولد من رحم عملية مالية واحدة.
تكشف الوثائق والتقارير الرسمية رواية مغايرة تماما. فالتدقيق المحاسبي والجنائي الذي أجري أخيرا بطلب من الحاكم الجديد كريم سعيد، قلب الصورة رأسا على عقب: أكثر من 99.9% من الأرباح الدفترية الناتجة من العمليات مع شركة "أوبتيموم" حصل عليها مصرف لبنان نفسه، فيما لم تنل الشركة سوى عمولة رمزية لا تتجاوز 573 ألف دولار، أي ما نسبته 0.007% من مجمل العمليات البالغة قيمتها اكثر من 8 مليارات دولار.
وعلى الرغم من أن الملف وُضع بيد القضاء منذ فترة طويلة، فقد عاد إلى الواجهة مع توجيه عدد من النواب، بينهم من "التيار الوطني الحر"، سؤالا رسميا إلى مصرف لبنان عن طبيعة العمليات التي جرت مع Optimum Invest، طالبين توضيحات مفصلة بالأرقام والمستندات.
وفق مصادر مطلعة، رد "المركزي" بجواب شامل، أكد فيه أن هذه العمليات ليست سوى عمليات محاسبية تقنية تستخدم في مصارف مركزية حول العالم لإعادة ترتيب الميزانيات ومعالجة الخسائر، مؤكدا أن "ما جرى في لبنان ليس استثناء، بل جاء في سياق الأزمة المالية التي انفجرت بعد سنوات من السياسات غير المستدامة".
من أبرز ما تضمنه رد المصرف أنه منذ مؤتمر باريس 2 عام 2002، بدأ "المركزي" بتسجيل تكاليف التمويل والخسائر في بند "الأصول الأخرى" (Other Assets). وبمرور الأعوام، تضخمت الخسائر نتيجة العجز الدائم في الموازنة العامة والكهرباء، إلى جانب سياسة تثبيت سعر الصرف (1500 ليرة للدولار) التي اعتمدتها الحكومات المتعاقبة حفاظا على الاستقرار الاجتماعي.
ولمعالجة هذه الخسائر وإطفائها من ميزانتيه، نفذ المصرف بين عامي 2015 و2018 سلسلة عمليات مالية مع "أوبتيموم إنفست" شملت 45 عملية بيع وشراء ممولة بالكامل (Fully Leveraged Sale/Buy-Back Operation)، منها 20 تتعلق بسندات خزينة بالليرة و25 عملية بشهادات إيداع.
وفي كل عملية، كان مصرف لبنان يمنح الشركة قرضا بالليرة لشراء أدوات مالية منه بالقيمة الإسمية، لتعيد الشركة بيعها من مصرف لبنان فورا بسعر يشمل أصل المبلغ مضافا إليه "الفوائد المستقبلية". وتاليا، سجّل المصرف أرباحا فورية على الورق، استخدمها لإطفاء خسائره السابقة في بند "الأصول الأخرى".
وأظهر التدقيق المحاسبي والجنائي عام 2025 أن هذه العمليات أسفرت عن أرباح دفترية بلغت ما يوازي 8 مليارات دولار (12.1 مليار ليرة)، جميعها استخدمت لإطفاء خسائر في ميزانية "المركزي" بالقيمة عينها.
أما "أوبتيموم"، فاقتصر دورها على التنفيذ التقني للعمليات مقابل عمولة محدودة، من دون أيّ إفادة مالية تذكر. بمعنى آخر، لم تكن هذه العمليات سوى ترتيب محاسبي داخلي في ميزانية المصرف المركزي، لا بابا لهدر أموال المودعين كما رُوّج.
وثمة أمثلة على مصارف مركزية عالمية كبرى تكبدت خسائر ضخمة نتيجة تقلبات السوق والسياسات النقدية. فقد أعلن المصرف المركزي السويسري خسائر بلغت 132 مليار فرنك سويسري (143 مليار دولار) عام 2022، ناجمة عن تراجع الأصول بالعملات الأجنبية، من دون أن يغير سياساته النقدية أو يوقف رفع الفائدة. كذلك تكبّد "المركزي" الأوسترالي خسائر بقيمة 45 مليار دولار أوسترالي (35 مليار دولار) بين 2021 و2022، في حين أعلن البنك المركزي الفرنسي خسائر بلغت 7,7 مليارات يورو عام 2024، عوضها من الأرباح المستقبلية، وهو ما فعله أيضا "المركزي الألماني" و"المركزي الأوروبي" في العام عينه.
ويبقى السوال: أين ذهبت أموال المودعين؟
فتّش عن الكهرباء والدعم!
في الخلاصة، تؤكد المصادر أن أموال المودعين لم تهدر في "أوبتيموم إنفست"، ولا في عملياتها مع "المركزي"، بل أنفقت بمعظمها عبر الحكومات المتعاقبة لتمويل عجز الموازنة والكهرباء والدعم وتأمين الاستقرار النقدي. فبحسب شركة "ألفاريز" التي أجرت التدقيق الجنائي في مصرف لبنان، حصلت وزارة الطاقة ومؤسسة كهرباء لبنان على نحو 25 مليار دولار من المصرف بين 2010 و2021. وكلّفت سياسات الدعم التي أقرتها حكومة حسان دياب، وخصوصا دعم المحروقات والقمح والأدوية والمواد الغذائية، أكثر من 9 مليارات دولار من أموال المودعين، رغم اعتراض المصرف المركزي.
إلى ذلك، أنفقت الحكومات المتعاقبة منذ عام 2004 نحو 16.5 مليار دولار لتسديد اليوروبوندز والفوائد المستحقة، في ظل قحط الدولارات في وزارة المال، وتراجع التدفقات النقدية في شكل حاد.
ولا يمكن إنكار مسؤولية بعض المصارف التجارية التي ساهمت بسوء إدارتها وتمييزها بين المودعين وإجراء تحويلات إلى الخارج، في تفاقم الأزمة. كذلك، أخطأت حين استثمرت جزءا كبيرا من أموال المودعين لدى "المركزي"، في حين كان الأخير يعطي الدولة قروضا. كذلك يتحمل مصرف لبنان نفسه جزءا من المسؤولية، حين لم يضع حدا حاسما لتمويل الحكومات والعجز والدعم، ولو كان أحيانا يفعل ذلك تحت ضغط سياسي مباشر.