Search Icon

قراءة هادئة في زمن الحروب

منذ أسبوعين

أقلام حرة

قراءة هادئة في زمن الحروب

الاحداث - كتب القاضي محمد وسام المرتضى*

المستجدّات من حولنا تحتّم التفكّر بهدوء في أحوال بلادنا، وما عانته وتعانيه من عدوان لا يكفّ عن ارتكاب المجازر صباحَ مساءَ وليلَ نهار. إنّها محاولةُ كَتْمِ الجراح ولو تحت النزيف، وإظهارِ البرودةِ ولو في وسط النار، وتحديق الرؤيةِ بالأعينِ المفتوحة في مهبِّ العواصف. لكنني قبل التوغُّلِ في مواضع هذا الهدوءِ الذي أسعى إليه، لا بدَّ لي من لفت انتباه القارىء إلى حقائق يعرفها بلا ريب، لكنَّ استذكارَها الآنَ ضروريٌّ لمقتضيات وعي الواقع بمعطياتِه كافةً. 
    أما أولى الحقائق فالتذكير بأن منطقتَنا كانت منذ تكوَّنَ التاريخ، ولا تزال، مسرحًا لصراعاتٍ واحتلالاتٍ ومقاومات، ومنشأً لكلِّ دعواتِ السلام التي عرفتها الإنسانية، أديانًا وفلسفات. هذا هو إثمُ الجغرافيا أو نعمتُها لا فرق، التي جعلت بلادَنا معقِدَ التقاء الدروب والحضارات، ومجازَ الجهاتِ بعضِها إلى بعض من أصقاع الدنيا إلى أصقاعِها القريبة والبعيدة. ولعلّ استعراض التاريخ المدوَّن في الكتب والذكريات، يبيِّنُ أن هذه البقعة من الكوكب هي التي شهدت الحروب الأكثرَ عددًا في الزمنِ الآدمي. هذا يدفعني إلى استخلاصٍ سريعٍ مفادُه أن من ينسِبُ أحوالَنا الراهنةَ إلى فعل اغتصابِ فلسطين منذ النصفِ الأوّل من القرن العشرين، أو إلى عملية طوفان الأقصى في السابع من تشرين الأول لعام 2023، إنما يقرأُ التاريخَ بمعرفةٍ مبتورة، فليس هذا الصراعُ الدامي الذي نعيشُه اليوم، إلاّ حلقةً جديدة من سلسلة صراعاتٍ قديمةٍ متواصلة. 
    وأما ثانيةُ الحقائق التي أودُّ التذكير بها فهي أنّ المنحى الفكريَّ في عالم اليوم يتَّجه صوب مقولةِ أنّ زمن الإيديولوجياتِ القومية ولّى بعد فشلِه في تحقيق القيم التي نادى بها، وبعد جَريانِ العالمِ نحو البعد الإنساني العامِّ والشامل. لكنني في المقابل، ودون الغوصِ في تفنيد هذه المقولةِ دحضًا أو تأييدًا، ألاحظُ أنّها بالرغم من رواجِها نظريًّا في كلِّ مكان، لا تنطبق عمليًّا إلاّ على شأنِنا العربي، وحده... فقط... لا غير؛ بحيثُ إنّ صانعي القرار الدولي وأصحاب المخططات العابرة للقارّات لا يتورّعون عن أن يزرعوا ويثبِّتوا ويدعموا في بلادِنا كيانًا غريبًا قائمًا على أساسٍ من قوميةِ عنصرية أسطورية مغلّفةٍ برداءٍ كذوبٍ من الدين، ولا ينفكّون يُنزِلون أفدحَ العقوبات المالية والمعنوية والسياسية بكل من يحاول وصفَ حقيقة هذا الكيان المغتصب، تحت دواعي معاداة السامية كما يقولون، فيما يُرادُ لنا نحنُ العرب، من الماء إلى الماء، نسيانُ أننا قومٌ ذوو هويةٍ قومية راسخة، قد تتسعُ في رؤيةٍ معرفيةٍ وتضيقُ في أخرى، لكنها تبقى واضحةَ الأركان والعناصر والمشتركات الثقافية والمصلحية. وإثباتًا لما أقول، لو تفحَّصْنا صراعات الكوكبِ في القرن الحادي والعشرين، لوجدنا كثيرًا منها ناشبًا بين أقوامٍ من هنا ومن هناك، تجمعُهم الروابطُ القوميةُ التي بحبالِها يستعصمون... ويتحاربون أو يتهادنون، لأجل مصالح أممهم الاقتصادية أوّلًا، إلاّ نحنُ فإننا نخاصمُ بعضُنا بعضًا من أجلِ مصالح الآخرين. فيا لله! ما أشبَهَ الليلةَ بالبارحة!
    وأما ثالثةُ الحقائق التي لا ينبغي لعاقلٍ نسيانُها، فهي أن البقاء يكون دائمًا للأقوى. 
    بعد هذه السردية، وانطلاقًا منها، أدخل إلى يوميات النار والوجع، لا في غزة والقدس والضفّة، بل في لبنان وسوريا والعراق أيضًا، وفي كلِّ بقعةٍ من أرضِنا الملتهبة، لأقول: صحيحٌ أن ما نشهده اليوم يندرجُ في المسرى العام لتاريخ المنطقة، بل لتاريخ البشرية كما أشرتُ من قبل، لكنه بالحقيقة، الأقسى والأضرى على مرِّ الزمان. فلقد كانت النزاعات العسكرية فيما سلف تكتفي بإحلال سلطةٍ محل أخرى، وإقرار تابعيةٍ عوضًا عن تابعية، لكنها اليوم تهدفُ إلى اقتلاع مكوّناتٍ بكاملها عبر قتلها وتهجيرها  وتدمير تراثها وقيمها واجتثاث مقوّمات وجودها، من أجل توطين جماعاتٍ من شعوبٍ متفرّقة جيء بها من مشارق الأرض ومغاربها لا يجمعُها شيءٌ من روابط الحياة إلّا العامل الديني المتعصّب الأعمى. وفي سبيل هذا الهدف يتولّى عالمُ اليوم، بأدواته المعرفية كافةً، تذخيرَ هذه الجماعات المغتصِبة بكل ِّوسائل القتل والحماية والدعم والتأييد، ولا يكفُّ عن قتلِ الضحية مرةً بعد مرة بالإعلامِ الفتاك وبالشرعية الدولية القاصرة حيناً والمتحاملة احياناً وبالسلاح المبيد. إنّها الظاهرة الثانية التي عرفتْها الأرض على هذا المثال، بعد إبادة الهنود الحمر في أميركا. 
    نحن ضحايا إذن: إنسانُنا... سماؤنا... أرضنا... بحرُنا... تراثُنا الضاربُ في وجدانِ الترابِ وجراحِ الذكريات، وهذا الأملُ الواقعُ على مشارفِ الدويِّ بين المسيّرةِ والقنبلة. 
نحنُ ضحايا إذن: عبَقُ الفضاءِ بموتٍ لا يحصى، والأمهاتِ بقياماتٍ لا تنتهي. 
ولهذا كلِّه، علينا أن نجبَه العالم أجمعَ قائلين: إن كنتم تنكرون علينا الشعور القومي الذي تبيحونَه لأعدائنا، فباسمِ الإنسانية التي بها تنادون كيف تقبلون أن تفعلوا بمصائرنا ما تفعلون؟ 
هل المجازر بحق الأطفال والنساء والشيوخ؟
هل الإبادات الجماعية للعائلات على دروب النزوح من خوفٍ إلى خوف؟
هل تدمير المساجد والكنائس والمستشفيات ومقرات الأمم المتحدة والبيوت؟
هل تجريفُ الحقول وزرعُ الحواجز بين القرى والاستيلاء على الملكيات الخاصة؟
هل حملاتُ التهجير الجماعيِّ لمن تبقّى؟ 
هل اصطيادُ الناس بالمسيّراتِ ورصاصِ القناصين؟
هل الموتُ اليومي الذي يستشري قصفًا واحتلالات؟
هل هذا كلُّه يشكِّلُ معنى الإنسانيةِ التي بها تنادون، يا سادةَ هذا العالم الجديد؟؟؟     إن لم يكن بحقِّنا العربيِّ فبحقِّنا الإنساني لنا أن نعيش ولنا ان نعيش بحريّة وكرامة. 
لكنَّ هذا يستدعي منّا التشديد الدائمَ والاعتقاد المطلق بتلك المسلَّمَة التي فرضت نفسَها في جميع العصور والحضارات وخلاصتها أنّ الحق غيرَ المدعومِ بقوّةِ حمايته لا يستطيع الصمودَ في معركة الحياة، فما بالُكم بالانتصار! من هنا تسطع بعيدًا من كلِّ الطروحات الفكرية والمقاربات الآنيّة حقيقةٌ لا مفرَّ منها مفادها: إن ْكنّا مؤمنين بحقّنا ضدّ أعداء الإنسانية، أكان حقًّا شخصيًّا أم وطنيًّا أم قوميًّا أو إنسانيًّا، فإنّ المحافظة عليه واستردادَه متى ضاع، لا يتأمّن إلّا بامتلاك عناصر القوة الكافية لذلك؛ وتلكم هي المقاومةُ، خلاصةُ القوّة وبوابةُ الانتصار، بوجوهِها المتعدِّدةِ التي منها العسكريُّ ومنها الدبلوماسيُّ والقانونيُّ والثقافيُّ، والاجتماعي أيضًا. فإذا كانت المقاومةُ العسكريةُ تفتر حينًا وتشتدّ أحيانًا، وتفوزُ في معركةٍ وتأزم في أخرى، بحسب موازين القوى في كلِّ ظرف، فإنّ قاعدة الصراع في الحياة تفرضُ استمرارها وسائر المقاومات عاليةَ النبرةِ والحضور. الجهود الدبلوماسية، وخاصة في المحافل الدولية يجب ألّا تتوقف على الرغم من السقوط المدوّي لمرجعياتها. والمراجعات القضائية المسندة إلى قواعد القانون الدولي الإنساني ينبغي لها أن تتكثَّفَ ضد الصهاينة، مجرمي الحرب وأعداء الإنسانيةعلى الرغم من القنوط من جدواها، والمقاومة الثقافية لا بدَّ لها أن تنمو وأن تتخذَ من العقل والحريّة والإنفتاح والقيم الأخلاقية والإيمانية معاقلَ لها لتجهض عمليات الهدم الممنهج لمجتمعاتنا عبر تسويق الانفلات الاخلاقي ولتواجه محاولات السطو الوقح على مفردات حضارتنا، بدءًا من أسماء المواضع والقرى حتى الاستلاب الكامل لهوية الإنسان والتاريخ والتراث ببعديه المعنوي والمادي في وجداننا. لكن أهم سبل المقاومة على الإطلاق لا سيّما لبنانياً هو سبيل الوحدة الوطنية التي بها، عن وعيٍ معرفيٍّ وعن حاجةٍ يومية إلى تحقيق أسباب العيش الكريم، نعرفُ أن الكيان المغتصب يهدّدنا في مقدرات بقائنا، لا في امتلاك السلطة علينا فقط، ويريد إخراجنا من هذه الأرض، لا حكمَنا فيها فحسب، وأنّ جوهرَه العنصري مناقضٌ لتاريخِنا وواقعِنا ومستقبلِنا، فأحاديَّتُه ضد تنوّعنا، وعدوانيته ضدُّ سلامِنا، وتحلُّلُه الأخلاقي ضدُّ قيمِنا، وسرطانُه ضدُّ مناعتِنا، ووجودُه ضدُّ بقائنا ومن لا يعي ذلك أحيله الى ميئير كاهانا ملهم الحكومة الحالية في الكيان الغاصب صاحب نظرية " لا رسوخ لاسرائيل قبل القضاء على الصيغة اللبنانية".
حاولتُ في هذا المقال أن أقدم مرافعةً مكتوبة لم أخرجْ فيها عن سرد الوقائع التي تنشرُها الشاشات والصحفُ ومواقع التواصل، وتقرأُها العامة والخاصة على السواء. ولم أخرجْ أيضًا عن قواعد ربط الوقائع بالمنطق، لترتيب الحلِّ الموافق للحقيقة وحدها. وكما قلتُ في المقدمة، لقد تعمَّدْتُ الكلامَ بهدوءٍ باردٍ في مسائلَ ملتهبة، لكنني في كلِّ حال مؤمنٌ أشدَّ الإيمان بما كتبت وكلّي رجاءٌ بأن يكون للصوت صدى. 
عاشت بلادنا كلُّها، وعاش مجتمعُنا الحرُّ المقاوم بالسيف والمقاوم بالصبر(كما قال مؤخّراً دولة الرئيس نبيه بري على قاعدة "وبشّر الصابرين") والمقاوم بالقلم والكرامة  والمقاوم بالتمسّك بالوحدة... وعاش لبنان.
*وزير سابق