الاحداث- كتبت لوسي بارسخيان في صحيفة نداء الوطن تقول:""باسم الشعب اللبناني" صدر حكم الغرفة الثانية في ديوان المحاسبة برئاسة القاضي عبد الرضى ناصر وعضوية المستشارين محمد الحاج وجوزف الكسرواني، في حق وزراء اتصال سابقين تعاقبوا على فضائح مبنيَي تاتش "قصابيان"، و "الباشورا".
هو الحكم "السابقة"، الذي قرّش للمرّة الأولى "الارتكابات" بعقوبات توازي حجم فداحتها. بعدما كشف الديوان خيوطها للمرّة الأولى في تقرير خاص صدر عن الغرفة نفسها في العام 2023، وشكّل مضبطة قضائية استُكملت بتحقيقات مضنية، انتهت إلى إدانة الوزراء بسوء إدارتهم القطاع، وتجاوزهم الأصول والقوانين المرعية، وصولًا إلى إثارة الشبهات بعمليات تبييض أموال، وتمرير عقود غامضة وغير شفافة.
هؤلاء الباكورة
هم ستة تعاقبوا منذ العام 2012. نقولا الصحناوي، بطرس حرب، جمال الجرّاح، محمد شقير، طلال حواط وجوني القرم. لم يخرج أيّ منهم بريئًا من الارتكابات المنسوبة إليه، وإن أُعفي اثنان من الغرامات المالية لعدم ثبات سوء النية. بينما قُدّرت الخسائر المالية الناتجة عن أفعالهم جميعًا بنحو خمسين مليون دولار، موزعة بين إيجارات مدفوعة لمبنى غير صالح وغير مستخدم، وتضخيم أسعار في استئجار ومن ثمّ شراء مبنى غير مكتمل، مع دفع كلفة استكمال الأخير مرتين، وبخسارة إضافية ترافقت أيضًا مع انتقال الملكية على الصفائح العينية إلى "تاتش".
إلّا أن جرأة القرار لا تختزل في أحكامه المالية. بل في ما شكّله من محطة فاصلة تعيد الاعتبار إلى الرقابة المالية، سواء في هذا القطاع أو سواه. فهل دخلنا فعلًا زمن محاسبة الوزراء على سوء ائتمانهم وإضرارهم بالمصلحة العامة؟
البداية
بدأت القصة في العام 2012. حينها تحوّلت حاجة MIC 2 أو "تاتش" للتوسّع بمكاتبها ومساحات العمل فيها، مزرابًا لهدر الأموال العامة، فتح مع بداية النقاشات لاستئجار مبنى "قصابيان". لينتهي الأمر بهدر فاق العشرة ملايين دولار على إيجارات دفعت لمقرّ لم يستخدم أبدًا، بينما سجّل الديوان استمرار هدر الأموال في هذا المبنى بسبب النزاعات القضائية التي ولّدها، وتورّطت فيها الدولة مع أصحاب العقار.
أما فصول القصة، فتتتابع مع هدر إضافيّ ترافق مع وضع خيار "قصابيان" جانبًا والانتقال إلى مبنى الباشورا. المبنى الذي أنقذ ديوان المحاسبة ملكيته من خلال قرارين قضائيين موقتين صدرا أيضًا في سنة 2023، ووثقا ما خلّفته صفقات استئجاره ومن ثمّ شرائه من خسائر ضخمة نتجت عن أداء أربعة وزراء متعاقبين.
أمّا الأهم في القرار القضائي النهائي الذي صدر، فإنه طلب من وزارة المالية – مديرية الخزينة، ووزارة الاتصالات أن تقدّما خلال شهر واحد تقريرًا يوضح الإجراءات المتخذة لتنفيذه، وكيف ستتمّ استعادة حقوق الدولة، وآلية تحصيل مبالغ العقوبات المحدّدة. إلّا أن هذه ليست كلّ مكاسبه. فالقرار الذي شكّل ثمرة اجتهاد لغرفة القاضي عبد الرضى ناصر أيضًا منذ العام 2020، رسّخ صلاحية ديوان المحاسبة في ملاحقة الوزراء، وكرّس بما لم يعد يقبل التأويل خضوع الوزراء لرقابة الديوان، متى ثبت أن قراراتهم ألحقت ضررًا بخزينة الدولة.
الدفوع الاستباقية
شن وزراء الاتصالات المدانون في المقابل حملة استباقية، ولو متأخرة، لنزع اختصاص ديوان المحاسبة و "كف يده" عن قضيتهم. فحاول ثلاثة منهم على الأقل، هم نقولا الصحناوي، جمال الجرّاح ومحمد شقير، إسقاط الملف في الشكل أولًا. إذ تذرّع هؤلاء أن المخالفات المنسوبة إليهم تتعلّق مباشرة بعملهم الوزاري، ما يوجب إحالتها إلى المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء. المجلس الذي يعرف الجميع أنه شبه معطّل بسبب الانقسام السياسي.
كما حاول "الوزراء المدانون" الاستفادة من عامل مرور الزمن، أو تذرّعوا بعدم جواز ازدواجية ملاحقتهم. وحاولوا أيضًا نزع صفة المال العام عن النفقات بهدف إسقاط اختصاص الديوان، مركّزين على ثغرات شكليّة في المسار الإجرائي، مع الاستشهاد بقرارات سياسية قديمة، والاعتماد على عادات إدارية رديئة.
دفوعات تحاول تخطي النصوص
في الدفوع المقدّمة، برزت أيضًا محاولات إلصاق التهم بمشغلي تاتش، متجاهلة الأصول التي تحدّدها بنود عقد الإدارة الموقعة مع الشركة المشغلة منذ العام 2012، والتي جعلت من الوزير، صاحب القرار الفعليّ في كلّ ما يتعلّق بالنفقات الاستثمارية والتشغيلية الأساسية. فبيّن الديوان بما لا يقبل اللبس، أن لجنة إشراف المالك التي يعيّن جميع أفرادها الوزير، تمثل عمليًا موقفه، وبالتالي فإن أيّ تعليمات صادرة عنها تُعدّ بمثابة أمر مباشر منه.
دحض ديوان المحاسبة الدفوعات المقدّمة بالشكل بصلابة القانون الذي تسلّح به. فرفضها في الأساس ومضى بتكوين ملفه القضائي بثبات. وقد حرص في إصداره قراره "باسم الشعب اللبناني"، على إزالة كلّ المطبّات التي قد تعترض تطبيقه لاحقًا، ومن بينها مطبّات داخلية أزيلت لتدارك تجربة الطعن بالقرار من داخل البيت الواحد، كما حصل في ملف فحوصات الـ PCR وما تسبّبت فيه من هدر لأموال الجامعة اللبنانية، الصادر عن غرفة الديوان الرابعة قبل أشهر.
بكّلها الديوان كي لا ينجو أحد بأفعاله. فعرّى المرتكبين قضائيًا وأمام الرأي العام، وكذلك أمام مجلس النواب الذي يُفترض أن يبني على قراره القضائي ليكمل دوره الرقابي. فبعض هذه المخالفات مطروح أصلًا أمام لجنة التحقيق البرلمانية التي شُكّلت في تموز الماضي، ويُستدعى أمامها الوزراء الصحناوي، حرب والجرّاح.
هذا بالإضافة إلى ما يشكّله القرار من دافع للقضاءين المالي والمدني، كي يبتا في دعاوى متصلة، وعالقة منذ سنوات. وأبرزها دعوى المدير العام السابق لتاتش، وسيم منصور، التي أدلى فيها بأن شراء مبنى الباشورا تخلّلته جرائم "صرف نفوذ، تبييض أموال، إساءة استعمال السلطة، وإهمال وظيفي". وقد استند الديوان إلى هذا الملف، للتأكيد أن الملاحقة أمام القضاء المالي لا تلغي الملاحقة الجزائية، وأن القضاءين متكاملان في حماية المال العام.
ماذا في تفاصيل هذه الاتهامات، وفي دفوعاتها، والردود عليها؟
في الدفاعات التي قدّمها الصحناوي، قال إن القرار اتخذته الشركة المشغلة وأن دوره كان إبلاغيًا فقط.
لكن الديوان عاد إلى عقد الإدارة الموقع مع المشغل في عام 2012، مخرجًا نصه الصريح على أن لجنة إشراف المالك تمثل إرادة الوزير نفسه، وأن أي تعليمات تصدر عنها هي تعليماته ما لم يعترض خطيًا. وانطلاقًا من هذه القاعدة، حكم القرار على الصحناوي بالمسؤولية عن بدل الإيجار المرتفع للمبنى رغم رفض سلفه الوزير شربل نحاس العقد ورغم أن عيوبه كانت مرئية بالعين المجرّدة.
كما حمّل القرار الصحناوي مسؤولية مسوّدة العقد النهائي الذي أرسل من البريد الشخصي لرئيس لجنة الإشراف، رغم أن إدارة تاتش كانت قد تراجعت عن الصفقة. وكذلك مسؤولية موافقة اللجنة على العقد نهائيًا رغم انتفاء الحاجة إليه بعد استئجار طابقين في وسط بيروت Beirut Digital District BDD.
لم يأخذ الديوان بقول الصحناوي إن استئجار الـBDD كان "حلًا موقتًا". فقد دحض ذلك من خلال مدة العقد المحدّدة بست سنوات، مع منع الفسخ قبل السنة الثالثة.
الهندسة تكشف
وبيّن تقرير دار الهندسة أن المبنى كان يعاني فعلًا من عيوب هيكلية خطيرة، وكشف أن المبنى لا يلبّي الحاجات المطلوبة، حتى بعد الصيانة. وهذا ما أكّدته "تاتش" التي اكتشفت في المبنى عيوبًا خفية في الأساسات تمنع استعمال المبنى، مطالبة المالك بتحمّل كلفة الإصلاح.
بدلًا من فسخ العقد أو طلب تعويض، وافق الصحناوي على ملحق تعديلي يحمّل الشركة 1.1 مليون دولار من كلفة التدعيم، بمقابل تحمّل الجهة المؤجرة مبلغ 700 ألف دولار من هذه الكلفة، على أن يتمّ تقسيطها من ضمن بدلات الإيجار. وهذا ما جعل تسديده مشروطًا باستمرار العقد. وبالتالي لا تتحمّل الجهة المؤجرة شيئًا إذا فسخ العقد. فعل الصحناوي ذلك من دون استشارة هيئة التشريع كما يفترض قانونيًا عند وقوع النزاعات.
في المقابل، وفي محاولته توفير بيئة قانونية افتراضية أوحى الصحناوي بأن قطاع الخليوي يعمل كقطاع خاص، وأن عقوده لا تخضع تاريخيًا لرقابة الديوان. فتجاهل ملكية الدولة الكاملة للشبكتين، وأن أموال الشركات ومبانيها ونفقاتها هي مال عام بالمعنى المباشر. بينما عاد الديوان إلى قانون الشراء العام الذي صدر في العام 2023 ليفسّر الممارسات الفضلى التي كان يفترض أن تُتبع حتى قبل نفاذه، واعتبر أن شركات الخليوي تعمل في سوق احتكارية، وبالتالي تخضع لضوابط أشدّ، لا أخف.
ولكلّ ذلك وغيره، حكم ديوان المحاسبة على الصحناوي بعقوبة مالية حدّدها بثمانية ملايين و 146 دولارًا أميركيًا. وحمّله مسؤولية تسديدها "من ماله الخاص"، وطلب من وزير الاتصالات الحالي إصدار سند تحصيل رسميّ فيها.
تهمة حرب تقديم الاعتبارات السياسية على المصلحة العامة
الوزير بطرس حرب عرف بالهدر، ولكنه لم يوقفه. وأعفاه الديوان من الغرامات المالية لأنه لم يرتكب الهدر، وفي المقابل لم يُعفه من مسؤولية التقاعس عن اتخاذ الإجراءات الكفيلة باسترداد المال العام ومحاسبة المرتكبين خلال تولّيه الوزارة.
كان حرب يعلم بوجود "صفقة مشبوهة" وخسارة تفوق العشرة ملايين دولار. ولكنه اكتفى بفسخ عقد استئجار المبنى، وتقديم إخبار للنيابة العامة المالية استنادًا إلى تحقيقات صحافية، من دون متابعة حقيقية. فيما رأى الديوان أنه كان عليه التقدّم بدعوى رسمية لدى هيئة القضايا.
لم تمرّ مرحلة تمرير مسؤولية الملف إلى سلطة حرب من دون "شبهات" لفّت أداء رئيس مجلس إدارة MIC2 أو "تاتش" بيتر كاليوبولوس، إذ عاد الأخير عن قرار فسخ عقد الإيجار في تجاوز واضح لصلاحيات الوزير ولجنة إشراف المالك، ما تسبّب لاحقًا في حجز على الممتلكات، وألزم الشركة بكفالة قيمتها 2.75 مليون دولار كبدل عن سنة الاستئجار الرابعة.
لم يدلِ حرب بأي دفاع عن تقاعسه في تحميل الإدارة مسؤولية الضرر عن التراجع في فسخ العقد، بل أظهر أنه اكتفى بالضغط المعنويّ على الشركة لإقالة مديرها، وهو إجراء غير كافٍ في حكم الديوان، الذي أدانه بتغليب الحسابات السياسية على المصلحة العامة. ومع ذلك أعفي حرب من العقوبات المالية، لكونه جنّب الخزينة خسائر إضافية. بمقابل طلب الديوان من وزير الاتصالات الحالي، القيام بما يلزم لاستيفاء التعويض عن الضرر من شركة "زين" المشغلة حينها.
كيف حمّل الجرّاح الخزينة عبئًا مضاعفًا؟
رغم وجود فضيحة "قصابيان"، مضى الوزير جمال الجراح في صفقة جديدة لاستئجار البلوكين B و C من مبنى City Development في الباشورا، متجنبًا الرقابة أو الأسس المعتمدة في اختيار العارض الأفضل. فتعاقد مع عارضٍ وحيد، من دون مناقصة أو استقصاء أسعار، متجاهلًا ضخامة قيمة الصفقة. ورغم إصرار الجرّاح في دفاعه على تلقي أربعة عروض خضعت لتقييم خبراء محلّفين قبل اختيار المبنى، كشف الديوان أن ثلاثة عروض رُفضت شكلًا لعدم استيفائها شرط المساحة، من دون أن يكون هذا الشرط مذكورًا أساسًا في طلب العروض، ومن دون إجراء استقصاء أسعار أو مناقصة فعلية. والأسوأ أن الوزير، بدلًا من أن يبحث عن بدائل، دخل في مفاوضات مباشرة مع المالك الوحيد المتبقي، ما حصر المنافسة ورفع الكلفة.
من جهة ثانية، حمّل الديوان الجرّاح مسؤولية الموافقة على تصنيف المبنى كمنشأة جاهزة Core & Shell خلافًا للواقع. إذ أظهرت المستندات أن المبنى كان غير منجز، وأن استكماله تمّ بتمويل MIC2، ثم احتُسب الإيجار على أساس مبنى منجز، ما رفع الكلفة بنحو 30 % أو بمبلغ قدّر بـ 1.92 مليون دولار. فقد زعم الجرّاح بأنه استند إلى مراسلات تفيد بأن المبنى منجز جزئيًا وأن سعر الإيجار قائم على هذا الأساس، وبرّر كلفة الأجرة المرتفعة بأنها نتيجة مفاوضات طويلة ومقارنات مع الأبنية المحيطة، لكن الديوان اعتبر المقارنة مضلِّلة.
أما الأخطر، فكان موافقة الوزير على عقد استكمال وتجهيز المبنى مع شركة SEG التابعة لمالكي مبنى الباشورا نفسه، من دون مناقصة، وبأسعار تفوق السوق، حيث وُقع العقد رضائيًا بقيمة 22.6 مليون دولار، من دون أي استدراج عروض. ما منح مالكي المبنى ربحًا مزدوجًا، وتمّ ذلك من دون عرض الملف على ديوان المحاسبة.
خلال التفاوض على عملية الاستئجار، باع المالكون مبنى CITY DEVELOPMENT لآخرين، في عملية بدت مشبوهة أيضًا. إلّا أن الوزير لم يتخذ موقفًا، أقله من خلال وضع إشارة عقد الإيجار على الصحيفة العينية كما يفرضه العقد، رغم انعكاس عملية البيع على الضمانات والتأمينات التي ارتفعت قيمتها.
ولهذه الارتكابات وغيرها، عاقب الديوان في قراره القضائي الجراح من ماله الخاص بمبلغ 11.3 مليون دولار، وطلب من الوزير الحالي إصدار سند بذلك.
محمد شقير: المسار المختلف
ورث الوزير محمد شقير الأعباء المالية الضخمة لعقد إيجار البلوكين في مبنى "الباشورا"، لكنه اختار مسارًا مختلفًا ومضى في صفقة شراء لهما، على اعتبار أنها تحقق "وفرًا" للدولة. إلّا أن هذه الصفقة لم تُعرض على أي مرجع استشاري وخصوصًا هيئة التشريع، ولا على لجنة إشراف المالك، ولم تخضع حتى لمراقبة ديوان المحاسبة.
تولّى شقير بنفسه التفاوض والتوقيع، ما جعل الصفقة تعيد إنتاج العيوب نفسها، وضاعفت الكلفة، وفتحت بابًا جديدًا للالتباس والشكوك.
وافق شقير على شراء المبنى بثمن مرتفع جدًا من دون تخمينه، ولم يُثبت أنه استعان بخبراء محلّفين لتحديد السعر، كما لم يُراعَ ما دفع سابقًا من أموال الخزينة لاستكمال المبنى. ورغم معرفته بوجود إجحاف في العقد، أقرّ في مذكّرته أن حلّه اقتصر على التفاوض وفق الأسس القانونية التي أرساها عقد الإيجار.
مع أن دفوعات شقير كشفت أن كلفة الإيجار كانت أعلى من تقديرات الديوان عند احتساب الضريبة على القيمة المضافة، فهو تجاهل الأمر كليًا. مع أنه كان بإمكانه وفقًا للديوان استخدام صلاحياته لإيقاف الضرر من خلال حجب براءة الذمة عن المديرين الذين وقعوا العقد، أو إنهاء العقد والمطالبة بتعويضات عن الأخطاء المخلّة بالصالح العام.
وأدّى إقرار الوزير بحسم بدل إيجار السنة الأولى من ثمن البيع إلى تضخيم السعر الحقيقي. فالوزارة اشترت المبنى بمبلغ 75 مليون دولار، وليس 68 مليونًا كما ادّعت، وهذا دون احتساب المبلغ الذي فاق الـ 22 مليون دولار الذي دفع لتأهيل المبنى خلال مرحلة الاستئجار.
في المقابل، شكّك الديوان في التقديرات المتعلّقة بمساحات المبنى وثمنه، خصوصًا عند مقارنتها بالصفقات الفعلية. واستند إلى دليل إضافي عند الاستحصال على تسجيل عقد بيع المبنى نفسه لدى وزارة المالية بتاريخ 2018/7/20 لصالح شركة AC REALITY GROUP، حيث بلغ ثمن المبيع المسجّل 58.5 مليون دولار، أي أقل بـ 16.5 مليون دولار ممّا دفعته الخزينة قبل احتساب التجهيزات السابقة. وإذا أُضيفت التقديرات لمساحات المواقف، فإن ذلك يزيد الكلفة الفعلية للصفقة، لعقار مرهون، من دون أي حماية لحقوق الدولة عبر وضع إشارة البيع على الصحيفة العقارية. وهذا ما شكّل أيضًا مخاطرة جسيمة بالمال العام.
ولكلّ هذه المخالفات وغيرها، اتخذ الديوان قرارًا بحقه بدفع مبلغ 11.3 مليون دولار، متساويًا بذلك مع الوزير جمال الجرّاح، في تصدّر قائمة قيمة العقوبات المفروضة عليهما.
حواط "زمط"
أعفي الوزير طلال حواط من الغرامة المالية، إلّا أن الديوان لم يعفِه من مسؤولية الإهمال في ممارسة صلاحياته لحماية حقوق شركة MIC2 وخزينة الدولة، وفشله في تسديد الأقساط في مواعيدها من دون مبرّر. وهذا ما شكّل خطرًا مباشرًا على خسارة الدولة لكلّ المبالغ المدفوعة سابقًا. كما أهمل اتخاذ الإجراءات القانونية المتاحة لضمان ملكية البلوكين. وبالتالي كان حواط محظوظًا لأن نقل ملكية المباني لاحقًا في عهد الوزير جوني القرم حدّ من الأضرار.
إما استعادة المواقف أو سيدفع ثمنها القرم
كان يفترض بمرحلة تولّي الوزير جوني القرم الوزارة أن تُطوى صفحة صفقة مبنى الباشورا على وضع إشارة شراء البلوكين على الصحيفة العينية للمبنى. فالقرم سارع إلى ذلك تداركًا لمعاقبته بموجب المضبطة الاتهامية لديوان المحاسبة، والتي حمّلته مسؤولية الإهمال في ذلك. كشف تقرير الديوان أن القرم تأخر في خطوته هذه. ولم يضع الإشارة إلّا بعد مرور سبعة أشهر من ولايته، علمًا أنه تبلّغ دعوى إلغاء عقد البيع من المالكين في أيار 2022. مع صدور القرارات الاتهامية للديوان، اقترح القرم تسوية تعتمد سعر 3900 ليرة للدولار في استكمال المبالغ المطلوبة لشراء البلوكين، من دون سند قانوني أو اتفاق مع البائع. وهذا ما جعل التسوية معرّضة للطعن، خصوصًا أنه لم يستشر الجهات المختصة، متجاوزًا هيئة القضايا التي يفرض القانون استشارتها.
لم تكن إجراءات القرم "المتداركة" كافية في المقابل لحجب مخالفة أكبر ارتكبها، عندما فرّط بحقوق الدولة من المساحات المخصّصة للمكاتب، وخصوصًا لمواقف السيارات. فتسبّب بخسارة 123 موقفًا، من دون وجود أي بند في العقد يسمح بذلك. وهذا ما جعل المبنى غير مناسب لغايته الأساسية، أي استيعاب الموظفين وسياراتهم.
حدّد الديوان قيمة هذه الخسائر بـ 4.92 ملايين دولار، وحكم على القرم بعقوبة تسديدها من جيبه، إلّا إذا نجحت وزارة الاتصالات في استعادة هذه المواقف مجددًا.
في الخلاصة، أكد ديوان المحاسبة بمطرقته القضائية، أن الوزير ليس فوق الرقابة، وأن المال العام ليس سائبًا، وأن الدولة، مهما تأخرت، هي قادرة على ملاحقة من فرّط بها. ولكن العبرة دائمًا تبقى في التنفيذ. والديوان وضع الوزارات المعنية، ولا سيّما المالية والاتصالات، أمام استحقاق شهر واحد لتبيان خطوات واضحة نحو استرجاع حقوق الدولة. فإما أن يشكّل هذا القرار بداية لتقليد قضائي رقابي جديد، أو يعود إلى خانة السوابق المعطّلة والتي تصطدم دائمًا بجدار السياسة.
|
هل يمكن أن يتخلّف الوزراء المدانون عن دفع التعويضات؟
ذكر مصدر مطّلع أنه بعد صدور قرار ديوان المحاسبة، فإنه يُفترض بوزارة الاتصالات أن تُصدر سندات تحصيل بحق كلّ من الوزراء المدانين في مهلة أقصاها شهر وفقًا لما ورد في متن القرار. وإلّا تعتبر الوزارة متخلّفة عن أداء واجبها بتحصيل الأموال العامة، ما يرتب على الوزير الحالي مسؤوليات قانونية ومالية.
أما في حال تخلُّف الوزراء المدانين عن تسديد التعويضات المفروضة عليهم بعد صدور سندات تحصيل قيمة العقوبات، فإن الجهات القضائية تصبح ملزمة بالحجز على ممتلكاتهم، استنادًا إلى قرار الديوان الذي طلب تبليغه أيضًا إلى الدوائر العقارية في وزارة المالية. علمًا أنه يبقى للوزراء المعنيين بالقرار الحق بالطعن في "صلاحية" الديوان بتعقبهم وليس في مضمون القرار أمام مجلس شورى الدولة، وهو الأمر الذي تصدّى له الديوان بقراره من خلال إبراز صلاحيته بتعقب الوزراء متى ارتكبوا مخالفات تسيء إلى المال العام.
|