الاحداث- خاص- تستعدّ كنيسة سيّدة المعونات في زوق مكايل هذا المساء لاحتضان أمسية موسيقيّة وروحية استثنائية، تمثّل خلاصة خمسين عامًا من الإرث الجماعي لجوقة حملت تراتيلها عبر الحرب والسلام، ورافقت أجيالًا من المؤمنين. الأمسية، التي تُقام برعاية البطريرك الماروني الكاردينال بشارة بطرس الراعي، تحمل عنوان “تراتيل القدّاس الماروني”، وهي من ألحان المايسترو جوزيف مراد ومن توزيع ابنه ريمي مراد، ويشارك فيها فنانون من أصحاب البصمة الواضحة في الغناء الروحي: رونزا، جورج وديع الصافي، جوزيف أبو ملهب، وإيمان منصور، إلى جانب “جوقة الأبرشية البطريركية – نيابة صربا” و”جوقة سيّدة المعونات – زوق مكايل”.
أما المفاجأة المميّزة، فهي مشاركة ملكة جمال لبنان لعام 2010 رهف عبدالله بقراءات روحية من كتاب “أصلّي”، في خطوة تعبّر عن انفتاح روحي وإنساني يتخطّى الانتماءات الطائفية.
ذاكرة موسيقية حيّة تخدم الكلمة
أكثر من أربعة عقود أمضاها المايسترو جوزيف مراد في خدمة الموسيقى الدينية والدرامية، حافرًا اسمه بين أبرز مؤلّفي الموسيقى الروحية في لبنان. فمنذ انضمامه إلى جوقة المعونات عام 1980، ثم تسلّمه إدارتها بعد ثلاث سنوات، كان مراد شاهدًا على مسيرة طويلة تخطّت الظروف الصعبة التي مرّت بها البلاد، وصولًا إلى اليوبيل الذهبي للجوقة.
ورغم نجاحه في وضع موسيقى تصويرية لأكثر من 21 مسلسلًا لبنانيًا وأعمال سينمائية ووثائقيات خارج البلاد، بقيت المؤلفات الدينية ركنًا ثابتًا في مسيرته. يقول مراد: “موسيقاي في الكنيسة ليست فنًّا للفن، بل في خدمة الكلمة، وإن لم تخدمها فقدت هدفها”.
في رسيتال الليلة، اختار مراد قطعًا تحافظ على الأصالة الليتورجية وتسمح في الوقت نفسه للجمهور بإنشادها. ولعلّ ما يلفت هو أن العديد من التراتيل المعروفة التي يظنّها الجمهور “تراثية” هي في الواقع من تأليفه، مثل “حياتي هي المسيح” و”يا مانح الحب”.
شراكة فنية وعائلية…
تعاون المايسترو مراد مع ابنه ريمي في التوزيع الموسيقي شكّل أحد عناصر التميّز في الأمسية. فالعلاقة بين الأب والابن، كما يروي مراد، ليست فقط موسيقية بل فكرية وجمالية، إذ يفهم ريمي رؤية والده ويعيد صياغتها بأسلوب معاصر من دون أن يفقدها أصالتها. إنه تكامل بين جيلَين يقدّمان عملاً موسيقيًا ناضجًا ومتجذّرًا في الروح المارونية.
جوقات وفنانون… أجيال متعاقبة تحت سقف واحد
الجوقات المشاركة ليست مجرد مجموعات غنائية، بل جماعات صلاة نشأت في الزمن الصعب، وعاشت تحوّلات البلد وناسِه. وفي الأمسية، تلتقي خبرة الجوقات مع أصوات فنية لها مكانتها في الغناء الروحي واللبناني.
رونزا، بصوتها الذي يحمل ذاكرة موسيقية كاملة؛ جورج وديع الصافي الذي يستعيد من خلاله مراد صداقة قديمة مع والده؛ إيمان منصور الوجه الجديد الهادئ؛ وجوزيف أبو ملهب الصديق ورفيق التراتيل منذ ثلاثة عقود. جميعهم يساهمون في تحويل الرسيتال إلى فسحة نور موسيقية وروحية معًا.
رهف عبدالله… حضور روحي يتخطّى الانتماءات
من بين محطّات الأمسية، تبرز مشاركة رهف عبدالله في قراءة نصوص من كتاب “أصلّي”. اختيارها، رغم اختلاف انتمائها الطائفي، يعكس الصداقة الروحية التي تجمعها بالمايسترو مراد. وقد وافقت أن تتلو النصوص كما هي، من دون أي تعديل في التعبيرات المرتبطة بيسوع ومريم، ما يضيف بُعدًا إنسانيًا منفتحًا على الأمسية.
لكن ما يجعل الأمسية أكثر حميمية هو أنها تُقام في الكنيسة التي تعمّد فيها مراد، وفيها عاش طفولته وكتب معظم ألحانه. “كنيسة سيّدة المعونات” ليست مجرد مكان بالنسبة إليه، بل هي بيت الروح الذي رافقه في كل مراحل حياته.
إصدارات مقبلة…
مراد، الذي لم يسع يومًا وراء مردود مالي لأعماله، يقترب من إصدار ألبومه الموسيقي الخامس، إضافة إلى ألبوم ديني جديد بعنوان “قداس ماروني” سيُنشر على قناته في “يوتيوب”. كما يستعد لنشر كتب جديدة في الموسيقى والشعر والصلاة، مؤكدًا أن الفن بالنسبة إليه “مفتاح من مفاتيح الخلود”.
الليلة، ستكون “كنيسة سيّدة المعونات” مساحة لقاء بين الموسيقى والإيمان، بين الماضي والحاضر، وبين أجيال صنعت لخمسة عقود هوية موسيقية مارونية متفرّدة. إنها أمسية لا تعكس فقط احتفالًا بيوبيل ذهبي، بل احتفالًا بروح الفن الذي “يغلب الموت”، كما يقول مراد، وبالرجاء الذي يرى فيه “النهار الذي لا يُطفأ… لأن يسوع هو الحق”