الاحداث- كتبت جوزيان الحاج موسى في “نداء الوطن”:في وقتٍ يغرق فيه لبنان في مستنقع أزماته المتشابكة، تمضي السلطة في إعادة إنتاج سياسات الإنفاق العشوائي والتمويل بالدَّين، في تجاهل سافر لمتطلبات الإصلاح البنيوي، متعمّدة القفز فوق كل المحاذير المالية، وراكنة مجددًا إلى منطق الصفقات والمقايضات، وكأنها لم تتعلّم شيئًا من تجربة الانهيار.
تمضي السلطة في هذه الأيام، في سياسة فرض النفقات الإضافية من خارج الموازنة بمئات ملايين الدولارات، وقروض تُمرَّر تدريجيًا في مجلس النواب بلا شفافية أو رقابة. وقد بدأت تتكشّف ملامح عودة مقلقة إلى نهج مالي مدمّر ساهم تاريخيًا في مفاقمة الدين العام، وتفكيك ما تبقّى من أعمدة الاستقرار الاقتصادي.
220 مليون دولار خارج الموازنة
من المنتظر أن يناقش مجلس النواب في جلسته بعد غد الإثنين زيادة في النفقات العامة تُقدّر بحوإلى 220 مليون دولار، ستُضاف إلى الخزينة من خارج موازنة العام 2025. وتوزّعت هذه المبالغ على الشكل التالي:
• 178 مليون دولار منح للعسكريين.
• 22 مليون دولار للقضاة.
• 15 مليون دولار مخصصة للجامعة اللبنانية.
مطالب محقة، وإنما تندرج في إطار الفوضى المالية، وأعباؤها المالية تشكّل ضغطًا إضافيًا على الخزينة العامة من دون توضيح كيفية تمويلها. ويزيد الطين بلّة استعجال اقتراح قانون لإعفاءات ضريبية للمتضررين جراء الحرب، من دون تحديد كلفته على الإيرادات، ما ينذر بانخفاض إضافي في الواردات.
السؤال البديهي الذي يطرح نفسه: من أين ستؤمّن الدولة تمويل هذه النفقات؟ هل سيتحمّل المواطن عبء تمويلها من خلال ضرائب ورسوم جديدة؟ أم هل ستتجه الدولة أخيرًا إلى تحصيل الجمارك، ضبط التهريب، جباية الضرائب وفرض رسوم على الأملاك العامة البحرية والنهرية، وهي مصادر عائدات لا تزال غير مُفعّلة بفعالية حتى الساعة؟
قروض جديدة… والديون تتراكم
تتجه الحكومة في موازاة ذلك إلى تثبيت سياسة الاستدانة من جديد، وهذه المرة بفوائد تصل إلى 8 % عبر البنك الدولي، من خلال مشاريع تُعرض على مجلس النواب بشكل منفصل “بالقطعة”، من دون ربطها بخطة إصلاحية شاملة.
جلسة الإثنين ستشهد طرح مشروعين أساسيين:
• 200 مليون دولار لما يُعرف بـ ”قرض التحول الأخضر” لدعم الزراعة
• 250 مليون دولار لقرض مخصص للطاقة المتجددة
إلا أن سداد هذه القروض، بحسب التزامات الحكومة تجاه صندوق النقد، سيأخذ أولوية على أي مساهمة مستقبلية للدولة في إعادة أموال المودعين.
قائمة ديون بين 1.3 إلى 1.5 مليار دولار
هذان القرضان ليسا سوى جزء من سلسلة قروض إضافية يُبحث إقرارها وتصل إلى نحو 1.3 إلى 1.5 مليار دولار، من دون احتساب 750 مليون دولار أخرى لإعادة إعمار البنى التحتية. ومن بين المشاريع المطروحة:
• 200 مليون دولار للشؤون الاجتماعية
• 256 مليون دولار لاستجرار مياه الأولي
• 150 مليون دولار للتحول الرقمي
• 250 مليون دولار لتطوير شبكة الكهرباء
• 250 مليون دولار لإعادة إعمار البنى التحتية
• 100 مليون دولار لقروض متفرقة مرتبطة بوزارة المالية
إلى جانب ذلك، تبرز التزامات مالية سابقة، على غرار تسديد مستحقات الفيول العراقي، ( حوإلى 1,2 مليار دولار) ما يزيد الضغط على خزينة الدولة.
سيناريو انهيار مُكرّر
في مشهد يعيد إلى الأذهان ما شهدته البلاد بين عامي 2011 و2019، يبدو أن السلطة السياسية تعيد إنتاج الأخطاء نفسها التي ساهمت في الانهيار المالي. آنذاك، أُقرّت نفقات وتم تقديم تسهيلات تمويلية من جهات دولية، أبرزها البنك الدولي، في غياب أي تنفيذ فعلي للإصلاحات المطلوبة. اليوم، السيناريو ذاته يتكرّر: قوانين مالية تمرّر على عجل، مشاريع قروض تُدرج دون رقابة، ونفقات تُضاف خارج الموازنة من دون واردات مقابلة، ما ينذر بكارثة اقتصادية جديدة.
في ظل قبول الحكومة بإضافة أعباء مالية من دون تأمين مصادر إيرادات مقابلة، يُطرح تساؤل جوهري: هل هناك نية حقيقية للإصلاح المالي، أم أننا أمام إدارة مرتجلة للفوضى بانتظار الانفجار الآتي؟
التجربة السابقة أثبتت أن غياب التخطيط وتغليب المنطق الشعبوي على المصلحة العامة، كما حصل مع سلسلة الرتب والرواتب، كلّف الخزينة أثمانًا باهظة. فبدلًا من إصلاح جذري، اختارت الحكومات المتعاقبة اللجوء إلى تمويل قصير الأمد عبر “هندسات مالية” أطلقها مصرف لبنان لضخ السيولة، ما أدى إلى استنزاف الاحتياطات ووضع البلاد على سكة الانهيار.
نفقات من دون موارد
في موازنة 2025، يطالب صندوق تعاضد القضاة بزيادة قدرها 22 مليون دولار، كما تطالب الجامعة اللبنانية بـ 15 مليون دولار، في ظل غياب أي تدقيق في أسباب العجز المستمر في صندوق القضاة أو آليات صرف تلك الأموال. ومع أن أي مصروف يجب أن يُقابله دخل، تستمر الدولة في الإنفاق غير المدروس من دون أي خطة لتحصيل واردات أو فرض ضرائب عادلة، أو حتى تحسين التحصيل من المرافئ والأملاك العامة.
أسئلة مشروعة تُطرح حول كيفية مقاربة المشاريع المالية المطروحة: هل سيتم تمريرها في جلسة واحدة تحت ضغط الوقت؟ وهل ستُقر في الهيئة العامة تحت عناوينها “الشعبية”، من دون دراسة دقيقة لتداعياتها المالية والاجتماعية؟ الأدهى أن المواطن نفسه، الذي يُراد استرضاؤه بـ ”منح استثنائية”، سيُجبر لاحقًا على تمويل هذه النفقات من جيبه عبر ضرائب جديدة ورسوم إضافية.
تكرار الأخطاء
الحكومة تمضي في مشروع اقتراض جديد من البنك الدولي، وتتجه إلى تمرير رزمة مشاريع تمويلية، كالقروض الزراعية والخدمات الاجتماعية، واستجرار مياه نهر الأولي في إطار مشروع سد بسري السابق. هذا النهج، إن استمر، سيُثقل كاهل الدولة اللبنانية بدين إضافي يتراوح بين 1.4 و2.2 مليار دولار، ما يعني أعباء مالية وفوائد مستقبلية ستُقتطع من حقوق المودعين والطبقة الوسطى تحديدًا.
مقايضات سياسية
ما يحصل في مجلس الوزراء هو تمرير قوانين وفق معادلات سياسية ومقايضات، لا وفق رؤية إصلاحية. القرارات تُفرض تحت ضغط الشارع والمؤسسات الأمنية، دون توضيحات شفافة حول كيفية تأمين الأموال اللازمة. والمفارقة أن الجلسة التشريعية المرتقبة الإثنين المقبل، والتي سيترأسها الرئيس نبيه بري، مرشحة لتمرير كل هذه القوانين دفعة واحدة، من دون تدقيق أو نقاش جدي، في غياب واضح للرقابة البرلمانية والشفافية المالية.
حتى اللحظة، لم تقدّم الحكومة أي تفسير واضح حول مصادر الإيرادات أو ما إذا تحقق أي فائض. كما لا تزال الحسابات المالية غائبة، مما يدفع بعض النواب إلى القول، أن لا فرق جوهريًا بين أداء وزارة المال الحالية وسابقاتها. كل الإجراءات تُنفّذ بمعزل عن القطوعات الحسابية، ما يُفقد المواطن القدرة على تقييم الأداء المالي.
لا إصلاح ولا مساءلة
في غياب الشفافية، واستمرار منطق الصفقات، ورفض الإصلاح الجذري، تبدو الدولة اللبنانية على وشك تكرار انهيارها السابق، لكن هذه المرة من دون “الصدمة” التي تدفع نحو التغيير. أما القروض التي تُمرر اليوم تحت عنوان “الإنقاذ”، فقد تتحول إلى عبء مالي دائم، تساهم في تعميق الأزمة بدلًا من حلّها.
الرهان على الوعي الشعبي والضغط الإعلامي لم يعد كافيًا. المطلوب مساءلة جدية، ورقابة تشريعية صارمة، وخطة مالية واضحة تحمي الدولة من الإفلاس مجددًا… قبل أن يفوت الأوان.