"الضرب أفضل وسيلة لاستنطاق الموقوفين".. تعديل المادة 47 ينتظر التوقيع
الاحداث- كتبت لينا فخر الدين في صحيفة الاخبار تقول:"عندما أقرّ مجلس النواب منذ أسبوعين اقتراح القانون الرامي إلى تعديل أحكام المادة 47 من قانون أصول المحاكمات الجزائيّة، احتفل الكثير من المتابعين بهذا الإنجاز. بالنّسبة إليهم، فإنّ حضور محامٍ مع الموقوف أثناء التحقيقات الأوّلية، وتصوير الاستجواب بالصوت والصورة، تحت طائلة إسقاط التحقيق الأولي، سينهيان «زمن» انتزاع الاعترافات تحت الضغط والتعذيب والتّهديد وفبركة الملفّات. ولكن هل ستسمح السلطة السياسيّة/الأمنيّة بأن يتحوّل هذا القانون إلى حقيقة، أم أنّه سيعود أدراجه إلى مجلس النواب؟
لا يخفي رتيب التحقيق ابتسامته التهكميّة عند الحديث عن إمكانيّة أن يحدّ تطبيق المادة 47 من قانون أصول المحاكمات الجزائية - بعد تعديلها في جلسة مجلس النواب الأخيرة يوم 30 أيلول 2020، والتي لحظت وجوب حضور محام للتحقيقات الأولية وتسجيلها بالصوت والصورة - من تعرّض الموقوفين للضرب بهدف الإدلاء باعترافاتهم. هو الذي اعتاد سلوك «أساليبٍ خاصة» لانتزاع الاعتراف أثناء التحقيق، يشير إلى أنّ «لبنان ليس سويسرا، وتطبيق هذا القانون يعني خلو النظارات من الموقوفين». بالنسبة إليه، فإنّ المُشتبه فيه لا يعترف إلّا بعد الكف!
لرتيب التحقيق معاييره الخاصة في «احترام» حقوق الموقوف. يتغيّر أسلوبه في التحقيق وفقاً لخلفيّة الشخص وجرمه. صاحب السوابق لا يعامل كـ«ابن البيت»، تماماً كما أنّ شخصاً متّهماً بالتحرّش بقاصر يختلف التعامل معه عن شابٍ تُضبط بحوزته سيجارة ممزوجة بحشيشة الكيف. تحقيقه يستند إلى حدسه وبعض الأدلّة اللذيْن يحددان «أساليب تدفع الموقوف إلى الإقرار بجرمه خلال دقيقتيْن».
لا تختلف نظرة بعض المُحقّقين إلى الموقوفين عن نظرة بعض القضاة. يروي أحد الضبّاط أنّه اعتاد أثناء مخابرة عدد من القضاة، لإعطائهم تفاصيل حول مجريات التحقيق مع الموقوفين من أجل الاستحصال على إشاراتهم بالتوقيف من عدمه، سماع جملة: «أدّبته؟ خبزته؟ ربّيه. اقسى شوي عليه»... وغيرها من مرادفات السماح بضرب الموقوفين أثناء التحقيق معهم بهدف الضغط عليهم لانتزاع الاعترافات!
القانون في النفق
إذاً، العيب ليس في المحقّق وحده، بل بمنظومة متكاملة تغضّ الطرف عن احترام حقوق الإنسان وتسمح بالانفراد بموقوف وتعرّضه للضرب والتهديد وإطالة مدّة توقيفه غير القانونيّة. وهذا يقود إلى السؤال، هل حقاً سيوافق رؤساء الأجهزة الأمنيّة على منح هذا القانون «إذْن عبور»؟
حتّى يوم أمس، لم تكن التعديلات على القانون قد خرجت من بعبدا ممهورةً بتوقيع رئيس الجمهوريّة ميشال عون. الأمر بالنسبة إلى القصر الجمهوري يُعدّ طبيعياً ولا يوحي بأنّ «فيتو» يعرقل عمليّة النشر في الجريدة الرسميّة، بل إنّ التعديلات ما زالت قيْد الدرس وفق الأصول من قبل الدائرة القانونيّة في القصر. ولم تتم إحالتها بعد إلى مكتب الرئيس، الذي سيصدر قراره ضمن المهلة القانونيّة المحدّدة، أي شهر، بحسب دوائر القصر.
إذاً، لا يبدو أن رئيس الجمهوريّة يبدي اعتراضاً على هذه التّعديلات، بل على العكس، تُحاول دوائر القصر الإشارة إلى اقتراب «النهاية السعيدة».
وعلى المنوال نفسه، تُكمل الأجهزة الأمنيّة رسم الصورة الورديّة لدخول التعديلات حيّز التنفيذ، مؤكّدةً التزام تطبيقها. يقول أحد الضبّاط في المديريّة العامّة لقوى الأمن الدّاخلي «إنّنا ننتظر صدوره في الجريدة الرسميّة على أحرّ من الجمر، لأنّنا كنّا من الجهات التي طالبنا بإقراره بهدف احترام حقوق الموقوف وسحب ذريعة الضرب التي يتّهمنا بها البعض». ويشدّد على أنّ المحققين في المديريّة لا يتّبعون أساليب الضغط والترهيب والضرب تجاه الموقوفين، بل إنّ عملهم في التحقيق يستند إلى التقنيّات المتطوّرة في قسم المباحث العلميّة»، موضحاً أنّ «جميع العناصر يخضعون لدورات تدريبيّة دوليّة في زيادة حرفيتهم ومراعاتهم لحقوق الإنسان التي تُعدّ مادة أساسيّة للتدريب».
هذا أيضاً ما يؤكّده مسؤولون في الجيش اللبناني، مشيرين إلى أنّ «الجيش يلتزم بالمواثيق الدوليّة، وهو من أكثر الأجهزة الحريصة على حماية حقوق الإنسان، ولهذا السبب تحديداً تمّ إنشاء مديريّة القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان في الجيش».
في المقابل، يتخوّف كثيرون من أن يتحوّل هذا الكلام المعسول إلى محاولة ناجحة لوأد القانون في مهده، إذ تشير المعلومات إلى أنّ الجيش، وخلفه سائر الأجهزة الأمنيّة، غير راضين عن دخول هذه التعديلات حيّز التنفيذ. الضرر الأكبر واقع على الجيش الذي لا تُعدّ مديرية المخابرات فيه ضابطة عدليّة، باستثناء الشرطة العسكريّة التي تقسم اليمين أمام القضاء.
وعليه، لا منفذ أمام رؤساء الأجهزة للتملّص من القانون، سوى من باب القصر الجمهوري، وتحديداً باستخدام مفتاح «موْنة» قائد الجيش العماد جوزيف عون للضغط على رئيس الجمهوريّة وحثّه على عدم التوقيع.
ويمنّي ضباط وقضاة (خصوصاً في النيابات العامة) أنفسهم بما يخشى منه حقوقيون، وهو ألا يقف رئيس الجمهوريّة في وجه رغبة الأجهزة، وأن يردّ القانون إلى مجلس النواب هذا الأسبوع لإعادة النظر فيه والتصويت عليه من جديد، مرفقاً إيّاه بالأسباب القانونيّة التي دفعته إلى ذلك.
لماذا تُعرقل الأجهزة؟
لا تبدو هذه النهاية مستبعدة لدى المتابعين، وبعضهم ممّن عَمِل على صياغة الاقتراح في لجنة الإدارة والعدل النيابية. هؤلاء يشيرون إلى أنهم حاولوا تقديم نص تشريعي نموذجي وفقاً للمعايير الدوليّة لاحترام حقوق الإنسان. وهم في هذا السياق يعتبرون أن إقرار تعديل أحكام المادة 47 لجهة تكريس حق الموقوف في الاستعانة بمحامٍ أثناء التحقيقات الأوليّة ومعرفة ماهيّة الشبهات المسوقة ضدّه وتسجيل التحقيقات بالصوت والصورة، إضافة إلى المعاينة الطبيّة المجانيّة (الجسديّة والنفسيّة) والاستعانة بمترجم مُحلّف، هو إنجازٌ حقيقي لتحصين العدالة.
يلفت المشرّعون إلى أنّ أهميّة القانون تكمن في تقديم الضمانات الأساسيّة لحُسن تطبيقه، وأهمّها إمكانيّة إبطال التحقيقات الأوليّة في حال إيجاد ثغرة، وإمكانية الملاحقة الجزائيّة لكلّ من لا يحترم تطبيقه. وبالتالي انتُزعت «الخيمة» من فوق رؤوس الأجهزة الأمنيّة والقضاة على حدّ سواء.
يبدو أنّ المشرّعين متيقنون من أنّ عناصر الضابطة العدليّة سيقومون بعرقلة هذا القانون، إذ إنّ عملهم سيكون مضاعفاً، خصوصاً في الجرائم غير المشهودة (عندما لا يضبط الفاعل مُتلبّساً). فجلسات التحقيق ستكون مصوّرة بالصوت والصورة ليكون التسجيل متاحاً أمام المدّعى عليه ومحاميه والمدّعي ومحاميه والقاضي، ما يعني الحد من التعدّي على الموقوفين أثناء الاستجواب. ويقول مسؤول رفيع المستوى في أحد الأجهزة الأمنية، صراحة، إن التعديل القانوني «يعني ان أحداً لن يعترف بجرمه». طبعاً، لا يلغي التعديل القانوني إمكان تعرّض الموقوف للضغط والتعذيب بأساليب شتى، بينها الاعتداء عليه جسدياً خارج وقت الاستجواب.
طريقٌ مسدود!
كلّ ذلك يؤكّد أنّ عمل الأجهزة الأمنيّة الذي كان، في الكثير منه، قائماً على انتزاع الاعترافات بالضغط والتعذيب لتكون «سيّدة الأدلّة»، لن يكون كذلك في حال صدور القانون، بل إن الضابطة العدليّة ستكون ملزمة بتطوير أدواتها التقنيّة للبحث عن الأدلّة الكافية لربط المشتبه فيه بالجرائم قبل التوقيف واتّباع أساليب جديدة لاستخراج المعلومات التي تُدين الموقوف.
إذاً، إقرار هذا القانون يعني أنّه الطريق الأصعب لبلوغ الأجهزة الأمنيّة مرادها. وأكثر من ذلك، فإنّ دخوله حيّز التنفيذ يفضح غياب المكننة والتطوير الإلكتروني عن غالبيّة مراكز التحقيق، ويُعيد فتح النقاش حول انفلاش النفقات السريّة سنوياً من دون حسيب أو رقيب، ورصد القسم الأكبر منها لرؤساء الأجهزة وضباطها وجزء من أفرادها، على حساب تطوير المراكز الأمنيّة وتمكينها تقنياً.
الأمثلة على بدائيّة عمل الأجهزة الأمنيّة لا تُعد ولا تُحصى. تخلو غالبيّة المخافر الموزّعة في المناطق، مثلاً، من الحواسيب الآليّة، لتكون النتيجة المنطقيّة بأنّ محاضر الاستجواب ما زالت تُكتب بالقلم والورقة بدلاً من طبعها على الكمبيوتر، وبالتالي استحالة إدخالها كداتا وتسهيل عمليّة الوصول والاطّلاع عليها لاحقاً في تحقيقات ذات صلة، أو حتّى للحصول إلكترونياً على «نشرة» الموقوف الذي قد ينتظر ساعات لوصول النشرة هاتفياً أو عبر «الفاكس»!
وإذا كان غياب التطوّر التقني يشكّل عائقاً في تنفيذ التعديلات المطلوبة للوصول إلى تحقيق شفّاف، فإنّ قُدرات الكثير من المحقّقين لا تُساعد هي الأخرى. إذ إنّ العديد من العناصر الأمنيّين لا يخضع لدورات تدريبيّة في تنمية مهارات التحقيق.
يقول أحد القضاة إنّ بعض المحققين لا يعرفون تلخيص مجريات التحقيق خلال مخابرته لأخذ إشارته، وآخرون يضطر إلى ثنيهم عن طرح أسئلة معيّنة أو حثّهم على طرح أخرى، إضافة إلى عدم قدرتهم على ربط الأدلّة والمعطيات بعضها ببعض.
يدرك القضاة أنّ المحقّقين قد يُنهكون في الكثير من الأحيان، خصوصاً لجهة انخفاض عديدهم. على سبيل المثال، فإنّ أكثر من 200 شكوى آنيّة ترد يومياً إلى أحد المخافر الذي يعمل فيه 10 عناصر، يكون نصفهم مأذوناً. وفي البقاع حيث ترتفع أرقام بلاغات البحث والتحري والشكاوى الآنيّة، يوجد حوالى 1200 عنصر لقوى الأمن الداخلي موزّعين على الأقضية الخمس لمتابعة مهام التحقيق والحراسة والسير والتبليغ...
ينذر الوضع بما هو أسوأ مع استحالة فتح الأجهزة الأمنية لأبواب التطوّع، نظراً إلى إفلاس الدولة، وبدء المفاوضات مع صندوق النقد وإمكانيّة إعادة «سيدر» إلى الحياة، مع ما يستتبعهما من ضرورة ترشيق المؤسسات بدلاً من زيادة مواردها البشريّة ومضاعفة الإنفاق على البنية التحتية والتطوير.
نقابتا المحامين: سنتابع تطبيق القانون
مقابل سوداويّة الواقع بشأن إمكانيّة عدم التوقيع على قانون تعديل أحكام المادة 47 من قانون أصول المحاكمات الجزائيّة، يُبرز نقيب المحامين في بيروت ملحم خلف قدَراً كبيراً من التفاؤل. يقول بفمٍ ملآن: «إنّنا بدأنا جديّاً بإنهاء التعذيب في مراكز التحقيق وانتقلنا إلى مرحلة احترام حقوق الإنسان».
يبدو خلف متحمّساً لنشر القانون في الجريدة الرسميّة والبدء بتطبيقه، حتّى تبدأ مهام نقابتَي المحامين في بيروت وطرابلس في مواكبة التنفيذ.
ولهذا الهدف، كشف أن فريقاً تقنياً من داخل النقابتين يعمل لإنشاء خط ساخن وتطبيق إلكتروني يربط الضابطة العدليّة بالنقابتَين، بغية تأمين محامين بأسرع وقت ممكن للموقوفين المُتعسّرين مادياً في كل الأقضية، على أن يتم تعيين المحامي بتصريح على المحضر من دون الحاجة إلى وكالة مصدّقة من النقابة.
يؤكّد خلف أنّ الجهوزيّة والسرعة في تأمين المحامين للموقوفين كافة لن تكونا ضمن نظام المعونة القضائية، كما أنّه لن تكونا على حساب كفاءة المحامين، إذ إنّه سيتمّ وضع معايير محددة لاستقبال طلبات المحامين المتطوّعين الذين سيُستعان بهم في هذا الإطار.
لا ينكر خلف أنّ إقرار هذا القانون يعني حُكماً البدء بتطوير مراكز التحقيق وآلية عمل المُحقّقين، آخذاً على عاتق النقابتَين مسؤوليّة متابعة التفاصيل والتشدّد في اتخاذ الإجراءات لحماية حُسن تطبيق القانون.
لبنان مشهور... بالتّعذيب
اكتسبت الأجهزة الأمنيّة اللبنانيّة في السنوات الماضية، «شهرةً عالميّة» في أساليب التّحقيق مع الموقوفين، حتّى وصل الصيت إلى أوروبا، التي استعانت بـ«خبرات» هذه الأجهزة.
هذا «التبادل الأمني» كان يحصل عبر تسريب أجهزة أمنيّة أوروبية معلومات عن وصول مشتبه بهم إلى مطار بيروت، كانت السّلطات الأجنبيّة قد استجوبتهم وفشلت في إرغامهم على الإدلاء بأيّ اعتراف.
أمّا في لبنان، فكان الوضع مختلفاً، إذ تمّ توقيف هؤلاء بناءً على اعترافات انتزعت منهم «على الطريقة اللبنانيّة»!
وهذا ما يشي بأنّ الأساليب المُتّبعة ليست عبارة عن «خطأ» يحصل من عسكريين من ذوي الرتب المتدنيّة، وإنّما هي ثقافة متعارف عليها من أعلى الهرم وصولاً إلى قاعدته.
إنّها ببساطة، الدولة التي تعمل بـ«المقلوب». بدلاً من تأهيل العسكريين الآتين من مشارب وبيئات وخلفيات مختلفة وإخضاعهم لدورات تدريبيّة مُكثّفة، بهدف تحضيرهم لإقرار قانون يمنع الضرب والتعذيب في المراكز الأمنيّة، فإنّها تقرّ قانوناً وتترك الباب مفتوحاً أمام رفضه... أو حتّى خرقه.