حراك فرنسي متأخر ورهان على الاحتواء الأميركي... إسرائيل تستبيح الجنوب و"حزب الله" يستثمر بالمسار الإيراني؟
الاحداث- كتب ابراهيم حيدر في صحيفة النهار يقول:"تُرسم سيناريوات عدة حول حراك باريس الاخير المتجدد في شأن الملف الرئاسي اللبناني والوضع على جبهة الجنوب، تراهن على تبلور وجهة جديدة تستند إلى تفاهم فرنسي- أميركي لتحييد لبنان وتجنيبه حرباً إسرائيلية لا تزال تهديداتها قائمة على وقع المواجهات في الجنوب بين "حزب الله" وقوات الاحتلال الإسرائيلي. هذا التفاؤل الذي عززه بيان الاليزيه بعد لقاء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون برئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي وقائد الجيش العماد جوزف عون، والذي أكد التزام فرنسا ببذل كل ما في وسعها لمنع تصاعد العنف بين لبنان واسرائيل وفقا للقرار 1701 وعهده الى مبعوثه جان ايف لودريان مواصلة جهوده لانجاز الاستحقاقات، بدا أنه يستثمر في الفراغ، ويغيّب المشكلات الحقيقية التي تقف حجر عثرة أمام اي حل.
كل الكلام الذي أشيع عن وضع دولي جديد تجاه لبنان بات ناضجاً للتوصل إلى تسوية في ملف الجنوب أولاً والرئاسة ثانياً، يدخل في باب التكهنات، وهو يضع البلد خارج كل التطورات في المنطقة وبينها الصراع بين إيران وإسرائيل، إذ أن الفرنسيين يتحركون وفق ما يقول مصدر ديبلوماسي مطلع لتجديد دورهم بلا رافعة فعلية، وهم يدركون أن تحقيق اي تقدم على جبهة الجنوب مرتبط بوضوح الصورة النهائية للوضع في غزة وما قد تتركه من تداعيات على لبنان. وحتى الآن لا يمكن الجزم بأن ما يجري في المنطقة بعد الرد الإيراني و"الهجوم الإسرائيلي" في اصفهان يصب في مصلحة محور المقاومة أو أن الحرب الإسرائيلية على لبنان ستقلب موازين القوى، وكل ذلك يترافق مع رهانات على انعكاس التطورات على الحل.
لا تبدو المقومات متاحة لنجاح الحراك الفرنسي في خرق الاستعصاءات اللبنانية ولا في وقف التصعيد على جبهة الجنوب، من دون عودة الزخم إلى الوساطة الأميركية القادرة وحدها على إحداث فرق في الوضع القائم، كما حصل خلال رعايتها المفاوضات غير المباشرة حول ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، والاتفاق الذي نتج عنها لم يُخرق حتى اليوم رغم العمليات العسكرية على طول الحدود. ويستحضر المصدر الديبلوماسي نجاح الأميركيين في ضبط المواجهات بين إيران وإسرائيل، وقدرة واشنطن على احتواء أي تصعيد يؤدي إلى تكثيف الضربات المتبادلة، وحصرها في جبهات محددة بينها لبنان كامتداد للحرب الإسرائيلية على غزة. هذا يدل على أن الأميركيين يمكنهم استيعاب الطرفين، أولاً بإعادة التفاوض غير المباشر مع إيران، ووضع حدود أمام إسرائيل وتطمئن في الوقت ذاته طهران، ولا تنجر إلى مواجهة معها، إذ أن حكومة بنيامين نتنياهو لا تستطيع توجيه ضربات كبرى ضد إيران بلا تغطية أميركية واسعة لا تستسيغها إدارة بايدن لاعتبارات لها علاقة بالمنطقة والمصالح وإدارة الصراع، فضلاً عن الانشغال بالانتخابات.
يدرك الفرنسيون أن واشنطن وحدها قادرة على إعادة تحريك المسارات، فسياستها في الاحتواء والاستيعاب تنعكس على المنطقة كلها، خصوصاً على لبنان وجبهته الجنوبية المشتعلة، طالما أنها ضغطت على إسرائيل لمنعها من توسيع الحرب، لكن وساطة مبعوثها آموس هوكشتاين توقفت بسبب عدم توفر الشروط للتوصل إلى حل جراء السقوف الإسرائيلية العالية، وأيضاً رفض "حزب الله" للتفاوض قبل وقف اطلاق النار في غزة. هذا لا يعني أن الإدارة الأميركية قد سحبت تغطيتها لإسرائيل، إذ هي تستمر بمدها بالمساعدات والسلاح والذخائر في حربها المستمرة على غزة. لكن ما يحدث قد يفتح ضمن حسابات معينة الأبواب على مرحلة جديدة من الصراع في المنطقة.
أعادت باريس تفعيل حراكها الديبلوماسي تجاه لبنان، لكنها لجأت مجدداً إلى الأميركيين في ما يتعلق بملف الجنوب، فأرسلت لودريان الى واشنطن للقاء هوكشتاين، فيما جاء استقبالها لميقاتي وعون لمناقشة ورقتها وادخال تعديلات عليها انسجاماً مع الوساطة الأميركية، وليس وفق الملاحظات اللبنانية المتعلقة بالقرار 1701. وللتذكير فإن رد لبنان الرسمي على الورقة الفرنسية قبل أكثر من شهرين جاء متأخراً، بما يوحي أن الحكومة كانت تراهن في شكل رئيسي على الأميركيين، أما اليوم وبعد لقاء باريس الأخير، فنشهد وفق المصدر الديبلوماسي مواقف للقوى التي تندرج ضمن محور الممانعة باعتبار "الأفكار الفرنسية متقدمة وترتكز على الالتزام وتطبيق القرار 1701" وذلك على الرغم من أن "حزب الله" اعتبر سابقاً على لسان أمينه العام السيد حسن نصرالله، أن المقترحات الفرنسية تتبنى الموقف الإسرائيلي وتسّوق له.
لا شك في أن باريس باستقبالها ميقاتي وماكرون، جددت دعم رئاسة الحكومة وقيادة الجيش، لكن اقتراحاتها حول جبهة الجنوب التي باتت تنسجم مع الوجهة الاميركية، لا تعني أنها وضعت ميقاتي في مواجهة مع "حزب الله"، طالما أن موقفه منذ بدء المواجهات حظي بالاشادة من محور المقاومة، وصنف كأنه يتحدث باسمه رسمياً، لكنه يراهن على أن وصول قائد الجيش إلى الرئاسة، يفتح الأبواب أمامه للعودة إلى رئاسة الحكومة، فيما الجميع يعرف أن عون كمرشح رئاسي يحظى بتأييد أميركي، من دون أن يعني ذلك تبنياً فرنسياً لاسمه، أو تخلّي باريس عن مقايضتها السابقة مع سليمان فرنجية نهائياً. فللرئاسة بالنسبة للفرنسيين حسابات تتعلق بالدور والتوازنات في المنطقة وبينها لبنان، ولذا ليس تفصيلاً أن تعود تصريحات أقطاب محور المقاومة للترحيب بالحراك الفرنسي الجديد.
وفي انتظار تطورات غزة يترقب الجميع الوجهة الأميركية وسياستها تجاه لبنان، إن كان حول الاستحقاق الرئاسي أو جبهة الجنوب، وذلك بالتوازي مع المسار الذي سيسلكه التفاوض غير المباشر مع إيران. وعلى الرغم من المبادرة الفرنسية ثمة رهان لبناني على المسار الأميركي ووساطة هوكشتاين للوصول إلى تسوية. وسيكون إعلان هوكشتاين عودته إلى المنطقة مؤشرا لتغيرات تحدث في المنطقة، لكن يبدو أنها لم تنضج بعد. وفي حالة الترقب يبقى لبنان في حالة استنزاف مديد، وهو يواجه حرباً في الجنوب يبدو أنها ستطول مع المواجهات على الجبهة التي تتجاوز قواعد الاشتباك السابقة، إذ لم يعد سهلاً البحث عن تسوية أو حلول بعد أكثر من ستة اشهر ونصف الشهر على المعركة، رغم أن الأميركيين لا يريدون التصعيد بين "حزب الله" واسرائيل. لكن ما يحدث في الجنوب يشكل خطراً محدقاً مع استمرار إسرائيل باستباحة لبنان وضرب عمقه، فيما بدأ "حزب الله" باستخدام اسلحة جديدة، حيث شكلت عملية الطائرة المسيرة الانقضاضية في عرب العرامشة تطوراً في العمليات على الحدود. ولذا تعتبر إسرائيل أن "حزب الله" يمتلك أسلحة قادر من خلالها على توجيه ضربات قاسية للاحتلال، وبينها صواريخ دقيقة ومسيّرات، بما يعني أنها قد تستمر بحربها بما يتجاوز القرار 1701، وهي مصرة على إبعاد الحزب عن الحدود إما بترتيبات أمنية أو بحرب واسعة توفر وفق وجهة نظرها الأمن والضمانات لمستوطنيها. ويقول المصدر الديبلوماسي أنه ما لم تتفعل المساعي الديبلوماسية والضغوط لإنتاج صيغة حل لوضع الجنوب سيكون لبنان أمام مرحلة هي الأشد خطورة في تاريخه.