
الاب حبيقة يحاضر في الدوحة عن جهودُ صُنعِ السلامِ في عالمٍ دائمِ التغيُّر: لبنانُ نموذجًا"
الاحداث - شارك الرئيس الفخري لجامعة الروح القدس الكسليك الأب البروفسور جورج حبيقة في ندوة نظمها مركز الدوحة الدولي لحوار الأديان في العاصمة القطرية الدوحة في حضور رئيسَ مجلسِ الوزراء وزيرَ الخارجية، القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، رئيسَ مجلسِ الإدارة في مركز الدوحة الدولي لحوار الأديان الدكتور إبراهيم بن صالح النعيمي، وفاعليات سياسية لبنانية وقطرية.
والقى الاب البروفسور حبيقة مداخلة في الجلسة الثانية التي ترأسها رئيس الرابطة السريانية في لبنان حبيب افرام بعنوان" جهودُ صُنعِ السلامِ في عالمٍ دائمِ التغيُّر: لبنانُ نموذجًا"، وقال فيها:"
إنّ المعضلةَ الأساسيّةَ التي تواجهُ الإنسانيّةَ في أيّامنا الحاضرة ليست بالدرجة الأولى استمراريةَ الحياة على سطحِ الكرة الأرضية مع التحوّلات المناخيّة الخطيرة، بل الوجودُ مع الآخر المختلف دينيًا وثقافيًا،والعيشُ معا في تحابٍ وسلام. على هذا التحدّي الوجوديِّ تقومُ رسوليّةُالكيانِ اللبناني. لذا نتساءلُ هنا تِلقائيًّا: كيف السبيلُ إلى حثِّ مختلِفِالمكوّناتِ اللّبنانيّة، التي تتمايزُ طبيعيًا على جميع الأصعدة، على قبولِ بعضِها البعض كمصدرٍ حتميّ لثقافةِ الحياةِ والتلاقُح الديني والتّكاملِ المجتمعي ضمن تآلفِ الاختلاف. في اللّغة الألمانيّة نقعُعلى مفردة غنيّة جدًا لتحديد الكائن البشري Dasein، أي الكائنُهنا. وهذا المصطلحُ يُفيدُ بأنَّ الكائنَ البشريَّ يعي ذاتَه مرميًّا في معادلةٍ كيانيّةٍ لم يخترها، وينطلقُ منها إلى تحقيقِ ذاتِه. مَن منّا اختار أباه أو أمَّه، أو بلدَه أو ثقافتَه أو لغّتَه، أو حتى دينَه؟ لذلك نطرحُ على ذواتنا هذا السؤالَ الوجوديَّ الكبير: لماذا إذن نتنافسُ ونتصارعُ ونتحاربُ وندمّرُ بعضُنا البعضَ، ونحوّلُ زمنَنا البشريَّ إلى تاريخٍ مأساوي، على أمورٍ لم نخترها؟ نستخلصُ مما سبق أنالنّزاعاتِ القاتلةَ والحروبَ المدمّرة، منذ قايينَ حتى يومنا الحاضر، إنما هي هزيمةٌ للإنسان.
إن التعدّديّةَ الدينيّةَ والثقافية اللبنانيّة، الضاربةَ في عمق التاريخ،تصلحُ أن تكونَ مختبرًا ومعيارًا. منذ أربعة آلاف سنة قبل المسيح حتى اليوم، دأب اللبنانيّونَ الأوائلُ الذين أطلق عليهم اليونانيّونَ اسم فينيقيين، على الحفاظ على الذاتيّات ضمن الشّعبِ الواحد واللّغةِالواحدة والمعتقداتِ الدينيّة الواحدة. كانت صورُ مع عمقها الداخلي في الجبل مملكةً قائمةً بذاتها، وصيدا كذلك، وجبيل وجزيرة أرواد. كان كلُّ مكانٍ جغرافي، مع حيثيّاتِه التاريخيّة والمجتمعيّة، يشكِّلُ ذاكرةًخاصة، تديرُها سلطةٌ محلّيّةٌ مستقلة. إداراتٌ تتجاورُ وتتصادقُوتتضامنُ ضمن احترام الخصوصيّات. هكذا بنى اللبنانيونَ الأوائلُسلامًا مستدامًا قائمًا على المبدأ التالي: عليك أن تكونَ ذاتَك لكي تكونَ مع الآخرين.
على مر القرون، تعرّض اللبنانيونَ الأوائلُ لاجتياحاتٍ عسكريةٍ متتالية، من دون هَوادة، من الفراعنة، والحثِّيِّينَ والفُرس. غير أنهم لم ينزلقوا يومًا إلى فكرةِ صهر الممالكِ اللّبنانيّة القديمة في إمبراطوريةٍ واحدة. لقد صمدوا في مبدئهم الوجودي حتى اليوم. في لاوعيهم وفي وعيهم، أدركوا أن الانصهارَ ليس أبدًا للمكوِّنات البشريّة، وليس بالتالي الطريقَ الأسلمَ لترسيخ السّلام. فالانصهارُ إنما هو حصرًا للمعادن التي تدخلُ مُتنوّعةً إلى الأتّون وتذوبُ على درجة حراريّة عالية، وتخرجُمعدنًا واحدًا، ذاتَ تركيبٍ كيميائيٍّ واحدٍ ولونٍ واحد. إن اللبنانيينَفَقِهوا بعمقٍ أنَّ العالمَ الحسيَّ بأكمله خرج إلى الوجود على قاعدة التنوّع، وأنَّ الحياةَ لا تُقيمُ إلا في حاضنة التنوّع، والسّلامَ لا يتحقّقُإلاّ في إدارةٍ ذكيّةٍ وفطنةٍ وحاذقةٍ للتنوّع. وخارجَ التنوّع، موكبُ جِنازةِالحياة. إذا أخذنا مثلاً على ذلك جسدَ الإنسانِ الحيّ. نرى أنْ ليس هناك من خليّةٍ تشبهُ أُخرى، وليس هناك من عضوٍ يشبهُ آخر. ولكن يتكاملون وظائفيًا. غير أننا إذا أخذنا جثّةً هامدة، نلاحظُ أنْ ليس هناك من أيِّ فرق بين جميعِ الخلايا والأعضاء. الموتُ يُلغي الفروقاتِويُصهرُ كلَّ شيء في هدأة اللاّحياة. بينما الحياةُ تُظهِّرُ التمايزَوالفروقاتِ والوظائفَ المتعدّدة.
لبنانُ الرسالةُ يعلّمُنا أنّه من دون الآخر المختلف، لن يكونَ بوسعنا أن نعيَ ذاتَنا في غيريّتِها. فالآخرُ هو رادفٌ أساسيٌّ في بلورة الذّات. هو جزءٌ لا يتجزّأُ من الذّات وهو الطريقُ إليها. إنَّ الدينَ الحقيقيَّوالإيمانَ الصادقَ بالله إنما هما ركيزتانِ أساسيّتانِ للانفتاح على كلِّإنسان، لأنَّ اللهَ بجوهرِه المطلق لا يتجزّأُ ولا يُفرّقُ بين خلائقه ولا يتحزَّبُ لشعبٍ دونَ آخر، ولا يناصرُ شعوبًا على أخرى. إنه إلهُ السّلامِوالمحبَّةِ والرّحمةِ لجميعِ الكائناتِ البشريّة. هو الجامعُ للشعوبِكمصدرٍ للوجودِ ومصبٍ له. هذا ما نسعى إلى إدخالِه في عقولِالأجيالِ الصّاعدة في لبنانَ التّلاقي، في لبنانَ الرّسالة.
في مقارباتهم لتاريخِ لبنانَ المديد، رأى المؤرّخون أنَّ اللّبنانيينَ لا يتحاربون إلا إذا كان لبنانُ رازحًا تحت احتلال أجنبي. فالمحتلُّ يمارس على الدوام سياسةَ فرِّقْ تسدْ. هو المؤجِّجُ لنار الخصومات والمصمِّمُللصّراعات ومخرجُها. وعندما يكونُ اللُّبنانيُّونَ لوحدهم في إدارة شبه ذاتية، لكيلا نقولَ في استقلال كامل وناجز، لاحظ المؤرِّخون أنّهميعيشون إلى حدٍ ما في سلام متماسك، مع أحداث محدودة وتوتُّرات سياسيّة لا تصل أبدًا إلى حرب أهليّة. وهذا يشيرُ بشكل لا لُبسَ فيه إلى أنهم سلاميُّون في جوهرهم ويُتقنون بالتالي فنَّ العيش معا وهم متمايزون.
منذ القرنِ السَّابعِ الميلادي حتى يومنا هذا، بدون انقطاع، يولدُاللُّبنانيُّ في حُضن التنوّعِ الدينيّ والثقافيّ، بعدما كان يولدُ في سابق الزّمانِ في واحاتِ التنوّعِ النمطيّ والتقاليدِ المجتمعيّةِ المكانيّةِالمختلفة. كقوّاد رأيٍ ومفكّرينَ ومحلّلين، علينا أن نُدخلَ في عقول الأجيال الصّاعدة أنّ السّلامَ الحقيقيَّ ليس انعدامَ الحرب. فالسلامُالصحيحُ هو أولاً سلامٌ مع الذّات. إن العديدَ من صنّاع الحروب هم هاربونَ من ذواتهم التي تمزِّقُها أسقامٌ وأمراضٌ خطيرة. يجب علينا أن نُلقِّنَهم أنَّ الكلمةَ هي أثمنُ شيء يمتلكُه الإنسان. هي همزةُ الوصل بين مطلقيّةِ الله عزَّ جلالُه ومحدوديّةِ الإنسان، هي العقلُ وهي المنطقُوهي الإبداع. والكلمة اليونانيّة Dia logosالتي منها انبثقت كلمةُحوار في اللّغّات الأجنبيّة، تعني "من خلال الكلمة". أي "من خلال الكلمة"، علينا أن ننظِّمَ حياتَنا، ونحافظَ على ذاتيّاتِنا، ونعيشَ معًا متمايزين، ونتكاملَ مع بعضنا البعض في الاحترام والتَّحاب والتضامن والسلام، ونضعَ حلولاً لجميع المشاكلِ التي تعترضُ وجودَنا البشريّ. ولكن عندما نُخرسُ الكلمةَ ونلتجئُ إلى العنف، عندها نكونُقد أسقطنا الإنسانيةَ التي ننتمي إليها، وانطلقنا في تدافعٍ انتحاريٍنحو تحطيمِ كلِّ مقوِّمات جوهرنِا البشريّ.
في جهودِنا لصنعِ السّلامِ في لبنان، في كنفِ عالمٍ متصدّع وبالتالي متغيّر، نسترشدُ بالقانون الذي يتحكَّمُ في الوجود الحسّي بأكمله، ألا وهو "قانونُ الجهدِ المهدور" Law of wasted effort. جميعُالمخلوقاتِ تخضعُ إلى هذا القانون. على سبيل المثال لا الحصر، يحاولُالأسدُ مئةَ مرةٍ اصطيادَ طريدة، سدًا لجوعه. فهو ينجحُ فقط في خمسٍوعشرينَ محاولةً، ويفشَلُ في خمسٍ وسبعين. وهذه النتيجةُ المتواضعةُلا تدفعُهُ أبدًا إلى الإحباط أو إلى الكفرِ بهذا الوجودِ التاعِس. فالإنسانُهو الكائنُ الوحيدُ الذي ينتفضُ بعد أيّ فشلٍ ويفكّرُ فورًا بالانسحاب من ساحةِ الكفاح. لهذا لإنسانِ الـمُحبَط، يقولُ العلماءُ الذين اكتشفوا هذا القانونَ، عليك أن تخضعَ أنت أيضًا إلى قانونِ الجهدِ المهدور، ملفتينَ نظرَه إلى الأمرِ التَّالي: "إننا نفشَلُ فقط عندما نوقفُالمحاولات، وليس عندما لا ننجحُ في محاولاتنا". فلا فشلَ يوهنُعزيمتَنا في متابعة السعيِ الحثيثِ والعنيدِ إلى صُنعِ سلامٍ مستدامٍفي لبنان. بفضل الانتظاراتِ الجميلة التي تستوطنُ عقولَنا وتُقيمُ في ربوع خيالِنا المنعتقِ من أغلال الواقعيّة الخانقة والمكبِّلة، وتدفعُنا بالتالي إلى اليقين الجازم بأنَّ اليومَ الأجملَ هو الآتي، بفضل هذه الانتظارات الجميلة، سنحوّلُ هزائمَنا المتلاحقةَ إلى مدارجَ إقلاعٍلمحاولاتٍ أُخرى متقاطرة، حتى ننتهيَ جبرًا إلى استيلادِ لبنانَ جديدٍ، وطنٍ للإنسان، عاشقٍ للسّلام ومدمنٍ على ثقافة الحياة.