المسيلحة ابتلعت المال العام... السد هدر المياه وخُتم بالشمع الأحمر
الاحداث - كتبت جوليانا معنق
استفاق اللبنانيون في الاسبوع الأول من شهر آب على واقعة لا مثيل لها في تاريخ لبنان, ألا وهي ختم سد المسيلحة بالشمع الأحمر من قبل قاضي التحقيق الأول في الشمال، سمرندا نصار والإدعاء على كل الأطراف المعنية في إنجاز هذا المشروع.
فهذا المشروع الذي كلف الدولة اللبنانية أكثر من سبعين مليون دولار هو مزراب لهدر المال العام أسوة بمشاريع مماثلة نفّذت من دون دراسة أثر بيئي.
بدأت القصة ، عندما قرر وزير الطاقة في حينه جبران باسيل باقتراح إقامة سد على رقعة أرض في أرض أثرية حيث بدأ العمل به بعد موافقة مجلس الوزراء في العام 2014 في منطقة أثرية تضمّ قلعة مشهورة تحمل اسم السّد نفسه، وتسبّبت إقامته في طمر دير أثري كان في المكان. إضافة إلى ذلك، فإنه بُني على سهل زراعي خصب.
انطلق المشروع من الأرض التي بني عليها هذا السد ، وتحديدًا من الشقوق والفجوات التي ابتلعت الماء والتي أصبح وجودها أكيدًا بالبراهين، ليست براهين تقارير الخبراء التي نادت سابقًا بتدارك مصيبة المسيلحة قبل وقوعها، بل بالبرهان الطبيعي والمرئي والذي وثق بالصور في حينها.
وفي العام 2022، أعلنت الحكومة اللبنانية عن اكتمال بناء السدّ ونشرت وزارة الطاقة والمياه صوراً له وهو ممتلئ.. لكن الصور كانت مؤقتة لان الأرض شربت ماء السّد الواقع على نهر الجوز في البترون شمال لبنان،
هذا المشروع الذي فشل في تحقيق هدفه الأساسي، ابتلعت أمواله كما ابتلعت الارض مياهه، وبقيت الوعود بتأمين المياه لساحل البترون حبرا على ورق، فبعد صورة تحويله إلى مكان لرواد السباحة على SUP ، تحول إلى مرعى لقطعان الماشية في جسم البحيرة في منتصف حزيران 2022 وبرزت في العام 2024 صورة الدجاج والصيصان والختم بالشمع الأحمر، خطوة اتخذتها القاضية سمرندا نصار أثارت ترحيباً عند البعض وتساؤلات وتشكيكاً عند آخرين.
فالقاضية نصار باشرت بالتحقيقات طالبة من وزارة الطاقة والمياه (الوزارة المعنية) تسليمها كامل المستندات والملفات منذ بداية تنفيذ المشروع حتى اليوم, مدعية على مختلف الأطراف الإستشارية أبرزها شركة "libanconsult" الشركة الاستشارية اللبنانية، شركة "باتكو" المنفذة للأعمال، وأحد المدراء فيها، وطلبت أيضاً الوصول إلى ممثلي شركة "coyne et bellier" الفرنسية الاستشارية، شركة "maltauro" وهي شركة إيطالية أيضاً ساهمت بالتنفيذ.
خطوة مفاجئة وغير متوقعة
نالت هذه الخطوة الفريدة من نوعها تعليقات مختلفة ووجهات نظر منوعة, وكان لا بد من التواصل مع النائبة ندى البستاني (وزيرة الطاقة والمياه في العام 2019), ولكنها احجمت عن الكلام مشيرة إلى أن الجهة الاولى المسؤولة عن السد هي وزارة الطاقة وطلبت التواصل مع أحد المسؤولين في الوزارة، مشيرة الى أن إنجاز السد واجه عقبات كثيرة أبرزها الأزمة الاقتصادية، وجائحة كورونا، والثورة وغيرها.
واعتبرت ان الحملة على السد وكل ما يقال حوله يصب في خانة" الشعبوية" ويستهدف "التيار الوطني الحر" تحديداً.
وزارة الطاقة والمياه
وبناء لنصيحتها تواصلنا مع المرجع الأول والمسؤول الابرز عن المشروع: وزارة الطاقة والمياه.
وفي حديث خاص لوكالة "الأحداث 24"، عبر مصدر مسؤول في الوزارة، رفض الكشف عن اسمه، عن موقف الوزارة المبني على الدهشة والتعجب حيال هذا القرار خصوصا أن أصول هذا المشروع تمتد على أكثر من عشرة أعوام. فبالنسبة الى الوزارة من الصعب اتخاذ قرار بهذا الحجم وبهذه السرعة والتوصل الى ختم المشروع من دون العودة الى البيانات والمراجع كافة والتي تستغرق الكثير من الوقت. مبدياً تساؤله عن التوقيت، وقال:"أليست صدفة أن يتم ختمه بالشمع في وقت رصدت فيه إعتمادات في الموازنة الحالية للمشاريع المائية مؤخرا؟".
أضاف:" إن الوزارة كانت قد بدأت بدراسة حلول إصلاحية مع الإستشاريين بعد توفر الإعتمادات في الموازنة، لتتوقف اليوم بعد صدور هذا الاجراء".
ورفض القول إن ختم السد بالشمع الأحمر هو لاهداف سياسية، مبدياً ثقته الكاملة بالقضاء"، ولكن متسائلا "عن كيفية أصدار قاض حكم في خلال أسبوع في قضية ليس لديه الخبرة فيها من الناحية التقنية".
وتابع:"إن الوزارة قامت، ولو متأخرة، بالدراسة لكونها كانت تعمل على الدراسات الجيولوجية والإيدرولوجية في الوقت عينه، خصوصاً أن تلك الدراسات تستغرق وقتاً طويلاً نظرا لدقة التفاصيل التقنية".
وعن تقرير SAFEGE ذكر المصدر أن "الوزارة أخذت برأي الشركة كرأي إستشاري إضافي (طرف ثالث) مؤكداً أن الوزارة أخذت في الإعتبار التقرير ومحاولة الإصلاح بعد تعيين الأخطاء والتسربات التقنية".
وعن التأخير في انجاز السد، يعتبر المصدر" أن التجربة خطوة ضرورية وأساسية هندسيا وهيدرولوجيا".
وشرح الخطوات التي قامت بها الوزارة منذ أواخر العام 2019 عندما ظهرت التسربات ليأتي الرد على الشكل التالي: "ظهرت التسربات في أواخر العام 2019/مطلع 2020, ما دفع الى الإصلاح, غير أن وضع البلد السياسي (من ثورة الى استقالة الحكومة) والصحي (جائحة كورونا) أوقف التمويل ومنع الإصلاح, ما دفعنا الى الإنتظار حتى صيف 2020 لتفريغ السد وإصلاحه. وفي شتاء 2020-2021, وبعد إعادة التعبئة تبين للوزارة والجهات المشرفة والمعنية أن التسربات لا تزال موجودة وتمت دراسة الإقتراحات والحلول لكن توقف التمويل (بسبب الأزمة) منع الإصلاح لتقرر الوزارة مباشرة أعمال التجربة بغية جمع أكبر عدد بيانات ومعلومات عن السد، ما أتاح الفرصة للجميع بالإنتقاد". وقال:"أظهرت التجارب أن تعبئة سد المسيلحة قد تحصل في خلال 36 ساعة".
وسأل"أيجوز اليوم ختم مشروع قد وصلت كلفته الى ما يقارب 60 مليون دولار، والإنتظار؟ أنهدر الأموال التي قد صرفت والإستملاكات بسبب 10 أو 15% إضافية؟".
وختم بالتأكيد أن "الوزارة ستقوم بكل الخطوات القانونية أمام القضاء".
ابي راشد
في ظل تصاعد الآراء والنظريات، كان لا بد من الإطلاع على مختلف المعطيات المتوفرة لمحاولة معرفة بعض حيثيات هذا القرار. وفي حديث خاص لوكالة "الأحداث 24"قدم الناشط والخبير البيئي ورئيس جمعية الأرض – لبنان بول أبي راشد، نبذة عن بعض المعلومات المتعلقة بالأسباب التي أدت الى تلك الخطوة. وذكر أبي راشد "أن هذا القرار هو نتيجة تقصير على صعد مختلفة منذ بداية التنفيذ مسلطاً الضوء على المراحل الإعدادية الأولى.
ويقول أبي راشد: "بدأت أعمال التنفيذ قبل تقديم الدراسة البيئية، أي دراسة تقييم الأثر البيئي (التي ينص عليها المرسوم 8633/2012) التي تهدف الى تحديد آثار المشروع البيئية, الأثرية والجيولوجية والتي ترفع فيما بعد الى وزارة البيئة للموافقة على الأعمال. كما وأكد مباشرة الأعمال آنذاك قبل العودة الى شروط وزارة البيئة ومعاييرها، ما يعاقب عليه قانون حماية البيئة (444/2002) والمرسوم المذكور أعلاه.
وردا على سؤال عن وجود "مزرعة دجاج" في المنطقة المحيطة بالسد، يقول أبي راشد، لا يبين هذا التفصيل الصغير ، حجم الضرر البيئي الطاغي والذي تعود أسبابه الى أعمال التفريغ والتعبئة أي أعمال التجربة. من هذا المنطلق, يؤكد أبي راشد أن الوزارة تأخرت في إنجاز المشروع حتى العام 2020 متذرعة بالإنهيار الإقتصادي والأزمة على الرغم من إعلانها موعد الإنجاز عام 2018 (4 أعوام بعد البدء في 2014). كما وذكر أنّ أعمال التجربة تبرز عدم جهوزية السد وفعاليته ما يبين فشل المشروع.
ماذا عن المستقبل؟
وعن مستقبل مشروع السد وما قد يخبئ من آثار سلبية، قال أبي راشد :"إن الضرر كبير ومدمر للمنطقة على مختلف الصعد (التاريخية والزراعية) نظرا الى عراقة منطقة المسيلحة وطبيعتها الخصبة. هذا ويبرز أيضا بعض الآثار البيئية على المستقبل البعيد التي قد تؤثر على الحيوانات الموجودة بالإضافة الى أنها قد تؤدي الى تدمير الشاطئ بسبب الترسبات والتآكلات الموجودة".
هذا، وأطلعنا ابي راشد على بعض المستندات القانونية الصادرة عن دائرة التفتيش المركزي والتي تظهر رأي استشاري فرنسي حيال مشروع سد المسيلحة. وفي السياق, تبرز تلك البيانات رأي شركة SAFEGE الفرنسية (أي الشركة التي تقدم المؤازرة الفنية لوزارة الطاقة والمياه) التي كانت قد حذرت من خلال تقريرها من وجود تسربات في الأرض, ما قد يزيد الإنجاز صعوبة".
وفي الختام, يبرز اليوم سد المسيلحة كملف هدر أساسي يشغل الرأي العام اللبناني من دون وقائع واضحة. فبين هدر المال العام ومساءلة المعنيين وبين الآراء المختلفة والألاعيب السياسية، يضيع حق المواطن الذي يصمد في وجه الأزمات ويقع ضحية حكام دولته.
ولكن تبقى التساؤلات في أذهان البعض، لماذا تم اتخاذ هذه الخطوة اليوم في ظل عطلة قضائية، وخصوصا ان هذا المشروع هو ملك للدولة اللبنانية؟ وهل ختم هذا المشروع بالشمع الأحمر هو بهدف إقفال الملف أو بهدف المزيد من التحقيق لمحاسبة المسؤولين ؟ وهل اقفال هذا الملف يأتي بعدما فشلت كل المساعي لتعبئة السد بالمياه؟ ولماذا لم يتم الاخذ بقرار ديوان المحاسبة ومحاسبة المسؤولين عن الهدر؟
وأخيرا, يبقى السؤال هل ستتحقق العدالة في هذا الملف ويحاكم المسؤولون عن هدر المال العام وعن السرقة والفساد؟ أو سيعاد تنفيذ سيناريو قديم كنا قد شاهدناه وتوقعناه حيث سيوضع الملف في الادراج؟
هذه الأسئلة وغيرها ستبقى برسم الأشهر وحتى السنوات المقبلة.