تربية وثقافة

افتتاح قلعة صيدا البرية برعاية السفارة الايطالية

الاحداث - افتتحت السفيرة الإيطالية نيكوليتا بومباردييري ووزير الثقافة محمد وسام المرتضى ومدير وكالة التعاون الإنمائي (AICS) لوكا مايستريبيري قلعة صيدا البرية. سُلّم الموقع إلى المديرية العامة للآثار بعد اختتام أعمال الترميم التي نفّذت بتمويل من الحكومة الإيطالية بقيمة 650 ألف يورو.
وزير الثقافة 
وفي المناسبة، ألقى وزير الثقافة كلمة قال فيها:"بعضُ الأماكنِ، مثلَ صيدا، حين تدخلُها يراودُكَ الشعورُ بأنَّكَ لستَ تمشي فوقَ سَطْحِ الأرضِ بل فوقَ السنين.
بعضُ الأماكنِ، تمتزجُ حِجارتُها برائحةِ تاريخِها... كما يمتزج بالوردة عطرها.
بعضُ الأماكن، ألسنةٌ تنادي العابرينَ: قِفوا نَحْكِ.
ولبنانُ كلُّه أيها السادة على هذا المثال: أرضٌ للحضاراتِ ممرٌّ ومستقَرٌّ منذ فجرِ الاجتماعِ البشري، وللثقافاتِ مُلتقًى ومُرتقًى على ترامي العصور. مدائنُ انزرعَتْ عندَ هذا الشاطئ، وعلى الجبالِ وفي الداخل الفسيح، وَأَوَتْ إليها الشعوبُ من شرقٍ وغرب، متفاعلةً مع أهلِها، في الفكرِ والإيمانِ والمعيشةِ والتجارة، والسلامِ والصراع والانكساراتِ والفتوحات، تفاعلَ أخذٍ وعطاء، حتى أصبحَ هذا الفضاءُ اللبنانيُّ المصهرَ الأول في التاريخ للتعدُّدِ الثقافي والتبادل الحضاري البنّاء.
وما الصرحُ الذي نفتتحه اليومَ إلا صورةٌ حيَّةٌ عن هذه الحقيقةِ التي عاشتها مدينةٌ راقيةٌ تعبقُ بالتاريخِ والحضارات. صيدا العزيزةُ التي أنشأها الفينيقيون منذ ما قبل الميلاد بقرون كانت درةً في تاجِ كنعان بقربِ أخواتِها المدنِ التي امتدت ممالكُها من أروادَ شِمالًا حتى عسقلانَ جنوبًا. ومنها انطلقَتْ قوافلُ في البرِّ والبحر بكل اتجاه، حاملةً صنائعَ فينيقيا ومنتوجاتِها وأخشابَ الأرزِ من جبالِ لبنانَ الشمّاء إلى الشرقِ وراءَ بلادِ ما بينَ النهرينِ وفارس، وإلى مِصْرَ وآسيا الصُّغرى وبلادِ الإغريق والرومان، وسائرِ موانئِ البحرِ المتوسط، وصولًا إلى شواطئِ أميركا حسبَ بعضِ الدراسات، قبل كريستوف كولومبوس بثلاثة آلاف عام. وتغنّت بصيدا القصائدُ كما فَعَلَ صاحبُ الإلياذة أومير (Homer)، ولأهميتِها وارتفاعِ شأنِها أطلق الكتاب المقدس لقب الصيدانيين على الشعب الفينيقي بأسره. هذه المدينةُ تداولَتْها الحضاراتُ الشرقيةُ والغربيةُ في العصرِ القديم، حتى جاء العربُ فحفروا حضارتَهم في الروح واللسان قبلَ الحجر، وظلَّت صيدا على تعاقبِ أحوالِها تعتنقُ القيمَ الإنسانيةَ والدينيةَ والحضاريةَ السامية، وتحتضنُ بالمحبة كلَّ لاجئٍ ومحتاج، وتبذلُ أزكى دماء أبنائها من رؤساءَ وقضاةٍ وقادةٍ ومناضلين في سبيل عزة الوطن وسيادته وحمايته وانتصار قضاياه.  

أضاف:
اليوم ندخلُ بوّابةَ الجَنوب لإفتتاح هذا المعلمِ التاريخيِّ الأثريِّ الذي يعودُ بناؤه إلى العهود الفينيقية الأولى، وإن سمَّتْه بعضُ الكتبِ مرةً قلعةَ القديس لويس ملكِ فرنسا وقائدِ الحملةِ الصليبيةِ السابعة، ومرةً أخرى قلعةَ المـُعِزِّ لدينِ الله الخليفةِ الفاطميّ. فإنَّ ما قامَ به هذانِ لا يعدو تشييدَ برجٍ هنا أو ترميم سورٍ هناك؛ والقلعةُ أقدمُ عهدًا من كِلَيْهما كما تُثْبِتُ الدراساتُ التاريخيةُ الموثوقة، وتدلُّ عليه الآثارُ الباقيات. ولأنَّ التاريخَ  يعيدُ نفسَه كما يُقال فإن هذا المـَعْلَمَ التاريخيَّ الأثريَّ الذي بناه الرومان دلالةً على استراتيجية موقع هذه المدينة وأهميتها الاقتصادية والعسكرية، يُبْعَثُ اليومَ مجدَّدًا إلى النورِ في أبهى حلَّةٍ بفضلِ الدعمِ الذي قدمتْهُ الدولةُ الإيطاليةُ مشكورةً، فكأنَّ روما تعودُ إلينا في هذا اليومَ من بوابةِ البناء لإحياءِ ما بيننا من تراثٍ مشترك.
لقد أعيدَ تأهيلُ هذه القلعة وتدعيمُها بإشرافِ المديرية العامةِ للآثار، وبالتعاون والتنسيق مع مجلس الانماء والإعمار، وأُنشئَ لها مدخل  ذو مسارات سياحية،  ورمِّمَت صالةٌ في داخلها خُصِّصَتْ معرضًا للُّقى الأثرية المستخرجة من حفريات الموقع، و ذلك بغرض إبراز القلعة البرية بمعالمها التاريخية وسراديبها الدفينة، ما يؤدي كما نرتجي إلى تنشيط الحركة الثقافية والسياحية في هذا المكان، مع واجب المحافظة على إرثنا الثقافي كنزًا للأجيال المقبلة.
قلعةُ صيدا البريةُ التي استعادت نضارةَ عمرِها الطّاعنِ في هذا التراب، رصيفةُ مثيلاتها من الآثار العريقة كخانِ الإفرنج، ومتحفِ الصابون وقصرِ دبانة المشيَّدِ على الطراز العثماني، والسوقِ بأزقَّتِه التاريخية... والقلعةِ البحريةِ الرابضةِ في حِضْنِ الموج، كلُّها عناوينُ عزةٍ لا تشيخ، وشواهد على صمود مدينةٍ غلبت عواديَ الدَّهْرِ، وهزمَتْ قُوى الشرِّ الهاجمةَ عليها من برٍّ أو بحر.
 
أيها السادة
لا تحيا أمةٌ تتنكَّرُ لماضيها. ولا مستقبلَ لأبنائها، ما لم يفهموا تاريخَهم المضيءَ والمظلمَ على السواء ويتَّعظوا به لأجل البنيان الحسن؛ ولن يكونَ ذلك لهم إلا بالتعمقِ في الوعيِ المعرفي. وهذا ما نسعى إليه في وزارة الثقافة، مؤمنين بمواهبِ كلِّ لبنانيٍّ خلاقٍ مقيمٍ أو مغترب، لكي نُبْرِزَ للعالم بأسرِه وجهَ لبنانَ الحضاريَّ النيّر الذي سينهض من كبوتِه مهما كانت الصعاب. ولا أكتمُكم أنه، خلال هذه المدة الوجيزة من عمر الحكومة، لا تكادُ تُشْرقُ علينا شمسُ نهارٍ إلّا وَيَرِدُنا خبرٌ عن إنجازٍ حضاريٍّ أسْداهُ للإنسانية نابغةٌ لبنانيٌّ مغترب، أو جائزةٍ عالميةٍ حازَها مبدعٌ من بلاد الأرز، أو سَبْقٍ ثقافي أو رياضي أحرزَه بطلٌ من عندِنا. ما يحملُني على الثقةِ بأن العافيةَ الثقافيةَ التي ما زلْنا نتنعَّمُ بها ستكونُ مدخلَنا الأكيدَ إلى استرداد عافيتِنا الإجتماعية والاقتصادية والمالية، قريبًا بإذن الله.        
في الختام أتقدم من الحكومة الايطالية بأحر الشكر والامتنان للجهد الكبير والعمل الرائع الذي قامت به لإحياء هذا الإرثِ الروماني الفينيقي المشترك. وأشكر على الأخص سعادة السفيرة السيدة نيكوليتا بومبارديري وأعضاء السفارة الإيطالية للاهتمام الخاص والعمل الشخصي الدؤوب الذي أظهروه في متابعة أعمال الترميم، وللدعم الثقافي الذي تقدمه الدولة الإيطالية إلى لبنان. متطلعين معًا دائمًا إلى مزيد من التعاون والتبادل في ميادينَ ثقافيَّةٍ شتّى لاتّساع رقعة الآثار الرومانية في أرض لبنان ومنها تلك البقعة الأثرية في بيروت المسكونة سعادة السفيرة بحلم تحقيق إنجازٍ فيها وهو الحلم المشترك بينها وبين وزارة الثقافة الذي نصبو الى ترجمته قريباً حقيقةً حيّةً قائمةً على ارض الواقع.
كما أشكرُ دعمَ بلديةِ صيدا رئاسةً ومجلسًا وفعالياتِ المدينةِ الكرام لتعاونهم الوطيد. 
سفيرة ايطاليا
شدّدت سفيرة الجمهورية الايطالية في لبنان في خلال حفل الافتتاح على أن "لبنان بلد له تاريخ عظيم وهو مدعو اليوم لمواجهة تحديات وصعوبات كبيرة. يمكن أن يشكل غنى تراثه الثقافي أحد الأسلحة للتغلب على هذه التحديات. يتعلق الأمر بقطاع كغيره من القطاعات التي تشهد على التزام إيطاليا الدائم إلى جانب بلد الأرز لبناء مستقبل من التنمية والنمو المستدام".
أدخلت على مر القرون تعديلات على قلعة صيدا البرية التي نراها اليوم وتضمّنت جزءًا من الهياكل القديمة كالممر الذي يؤدي إلى المسرح الروماني. سيصبح هذا الموقع الأثري موقعًا ثقافيًا لجميع أبناء صيدا.
نفذَت وكالة التعاون الإنمائي بالاشتراك مع مجلس الإنماء والإعمار والمديرية العامة للآثار أعمال ترميم الموقع الأثري والمنطقة المحيطة به وتسليط الضوء عليها. جمع هذا المشروع الخبرات الإيطالية للحفاظ على التراث الثقافي. جرى أوّلا مسح للمباني المتبقية وتشخيص للبنى وللمباني التاريخية للقلعة ومحيطها. حُدّدت الأعمال في المنطقة المعنية بالمشروع بناءً على نتائج المسح المذكور. أُنجزت أعمال ترميم وتدعيم وصيانة المباني الرئيسية التي تعود للحقبة الرومانية وللقرون الوسطى والتي هي جزء من الممر الذي يؤدي إلى المسرح الروماني الموجود داخل القلعة، والبرجين المتبقيين والجدران المحيطة. أخيرًا، جرى تنظيف الموقع بالكامل وتشييد جدار إسمنتي وأسوار وفتح مدخل جديد ومكتب تذاكر وانشاء مراحيض للزوار.
ونظّمت في اليوم عينه زيارة تفقدية لأعمال ترميم خان القشلة، وهو مشروع مموّل من قبل الحكومة الإيطالية في إطار برنامج التراث الثقافي والتنمية الحضرية بقيمة مليونين يورو. يقع النزل في سوق صيدا القديم وهو مبنى يعود للقرن الثامن عشر خضع لتغييرات وتحولات على مر القرون لحين هُجِر بالكامل. ونظرًا لقيمته الثقافية والتاريخية، يخضع اليوم لأعمال الترميم والتدعيم والتطوير ليصبح مركزا للحرف اليدوية مع مساحات مخصصة للتدريب وتسويق المنتجات أبوابه مفتوحة للجمهور. ومع انتهاء أعمال الترميم ستتولى منظمة من المجتمع المدني في صيدا ضمان استمراريته وفقا لخطة عمل تشغيلية ستُزوّد بها.
اشارة الى أن مشروع ترميم القلعة والمنطقة المحيطة به يندرجفي إطار برنامج التراث الثقافي والتنمية الحضرية الذي يتولى التعاون الإيطالي بشكل أساسي تمويل مشاريع الترميم فيه. لا يقتصر هدف المبادرات التي نُفذت والتي ما زالت قيد التنفيذ في مناطق مختلفة من البلاد فقط على حماية المعالم الأثرية لتراث ألفي فريد من نوعه في العالم لا بل على جعلها أقطاب سياحية ومحرّكات تنمية اجتماعية اقتصادية وحضرية وبالتالي دفع المواطنين إلى استعادة تراثهم التاريخي وتحويله إلى قوة دافعة للتنمية الاقتصادية المستدامة.