صفحات مجلّية منسيّة من تاريخ بيروت بدر دمشقيّة
الاحداث- كتب جوزف بدوي يقول :"في السابع عشر من تشرين الأول 2019 أطلقت عائلة دمشقيّة من مقرّ الجامعة الأميركيّة في بيروت كتاباً بعنوان "بدر بك دمشقيّة 1881-1952– صفحات من حياة رجل وحكاية مدينة"، يروي حقبة من تاريخ بيروت عبر سيرة هذا الرجل المميّز غير النمطي في تجربته السياسيّة وفي حياته الخاصة. لكن الكتاب الصادر عن مكتبة أنطوان باللغتين العربية والإنكليزية، والذي صودف إطلاقه مع اندلاع الثورة في لبنان على الفاسدين، لم يحظ بالإهتمام الذي يستحق.
وراء فكرة الكتاب، السفير السابق رامز دمشقيّة حفيد بدر وإبن السفير السابق نديم دمشقية. كلّف السفير الصحافي عبد الستار اللاز إعداد الكتاب مع ما تطلّبه ذلك من جهد كبير، فتواصل مع المسنّين من العائلة والمقرّبين منهم، وبحث طويلا في الصحف والكتب القديمة ليقدم لنا كتاباً من 328 صفحة من القياس الكبير، صيغ بحرفية وبأسلوب سلس وشيّق، دمج فيه اللازم بين تاريخ العاصمة وسيرة الرجل في مرحلة غاية في الدقة من تاريخ لبنان.
ولد بدر دمشقيّة في البسطة الفوقا في بيروت عام 1881 في مرحلة تزامنت مع بدء أفول نجم السلطنة العثمانيّة وبدء تساؤل السكان بتلاوينهم المختلفة عمّا يمكن أن يكون عليه مستقبلهم. هل يتمسّكون بالسلطنة العثمانيّة والخلافة الإسلاميّة رغم تحولّها إلى "رجل مريض"؟، هل يختارون الرابط القومي العربي بديلا من الولاء للسلطنة؟ هل سيتفقون على صيغة تجمع بين المتصرفيّة بأكثريتها المسيحيّة والولايات العثمانيّة المجاورة لها بأكثريتها المسلمة وبينها ولاية بيروت؟
بدر إبن القاضي رسلان دمشقيّة
والد بدر هو رسلان دمشقيّة القاضي الذي تنقّل في عمله داخل أراضي السلطنة بين طرابلس وحماه والقدس، قبل أن يعيّن قاضياً في محكمة الاستئناف في بيروت. وبعد انشاء الكليّة السورية الانجيليّة (التي باتت لاحقاً تعرف بالجامعة الأميركيّة) وجامعة القديس يوسف، التقى عدد من أعيان السنّة في بيروت وبينهم رسلان دمشقيّة، وأنشأوا عام 1878 جمعيّة المقاصد الخيريّة الإسلاميّة. لكنّ والي بيروت الجديد احمد حمدي باشا حلَ هذه الجمعية عام 1888، معتبراً أنها خرجت عن نطاق عملها التربوي. ولم يرفع هذا الحظر عن جمعية المقاصد سوى عام 1908.
ازدادت أهمية بيروت خلال تلك الفترة وباتت عام 1888 عاصمة ولاية حملت اسمها وضمّت سناجق بيروت وطرابلس واللاذقية وعكا ونابلس. وتفيد مصادر عدّة أن عدد سكان المدينة ناهز المئة ألف في تلك الفترة، وكانت فيها 12 صحيفة و13 مطبعة. كما جرَّت المياه إليها من نهر الكلب، وتمّت إنارتها بالغاز، وقامت شركة فرنسيّة بفتح طريق بين بيروت ودمشق كانت عربات الخيل تقطعها في 12 ساعة.
في مطلع القرن العشرين، عين رسلان دمشقيّة عضواً في مجلس ولاية بيروت وترأّس غرفة تجارة المدينة، وبات من أعيان المدينة المعروفين إلى جانب سليم علي سلام (والد صائب سلام) وعمر الداعوق. وكان أن توفي رسلان قبيل الحرب العالميّة الأولى، فخلفه في العمل العام بكره بدر مستفيداً من علاقات والده الممتازة خاصة مع سلام والداعوق.
تخرّج بدر بك دمشقيّة عام 1899 من "الكلية العثمانيّة" في بيروت حاملا الشهادة الثانوية، وورد اسمه مع صفة تاجر على قائمة الدفعة الأولى من متخرجي هذه الكليّة. وعام 1908، أعيد العمل بجمعية المقاصد الخيريّة الإسلاميّة بعد وصول حزب الاتحاد والترقّي إلى السلطة في اسطنبول، وعين بدر عضواً في لجنة مصغّرة كلّفت وضع نظام داخلي جديد للجمعيّة، ما اعتبر فاتحة لمسيرته في العمل التربوي والإجتماعي والسياسي. كما عيّن مديراً إداريّاً لجمعيّة المقاصد بعد أن تزوج من خيريّة العريس ابنة تاجر حبوب بيروتي ثري، وأقام مع زوجته في منطقة برج ابي حيدر، ورزق بإحسان عام 1908 وبهيرة عام 1910 وسامية عام 1911.
عاصفة جوليا طعمة
كان يمكن لبدر أن يكمل حياته المهنيّة والشخصيّة على هذا المنوال في بيروت إلى جانب سليم سلام رئيس جمعية المقاصد، لولا مغامرة عاطفيّة مفاجئة قلبت حياته رأساً على عقب، وأحدثت هزّة تناولتها طويلا عائلات بيروت المحافظة بطبيعتها.
ففي يوم عمل عادي في إدارة جمعيّة المقاصد، طلب سليم سلام من بدر دمشقيّة أن يرافقه إلى المستشفى التابع للكلّية السوريّة الإنجيليّة للاطمئنان إلى صحة شابة تعرّضت لحادث في بيروت تسبّب به إبنه علي سلام عندما صدمها عرضاً بحصانه. لم يصدّق بدر عينيه عندما اكتشف أن الصبيّة المصابة لم تكن سوى الشقراء المسيحيّة جوليا طعمة التي سرقت قلبه قبل أسابيع قليلة، عندما ألقت كلمة في قاعة "الغران تياتر" في بيروت ألهبت مشاعر الجمهور لحثّه على التبرّع بالمال لبناء مصح لمرضى السلّ.
يروي صائب سلام كيف توجّه والده لزيارة جوليا برفقة بدر بعد أن صدمها حصان علي سلام إبنه البكر. وشاء القدر أن يعجب سليم سلام بالثقافة الواسعة لهذه الصبيّة، فطلب منها العمل في الجمعيّة قبل أن يسلّمها إدارة كلّية المقاصد للبنات، وهو القرار الذي اعتبر جريئاً في تلك الفترة وسط مجتمع بيروتي سنّي محافظ. لكن الألسن سرعان ما بدأت تلوك حول علاقة غراميّة بين بدر وجوليا، ولما استفسر سليم سلام في البداية من بدر عن هذا الأمر، نفى الأخير وأكّد أن العلاقة هي علاقة عمل.
لكن القلوب كانت في مكان آخر، ولم يعد في إمكان بدر إخفاء الأمر. فانكشفت العلاقة وطلّق زوجته إبنة عائلة العريس، وتزوّج الشابة الجميلة الشقراء، الأمر الذي أثار غضب العائلات البيروتيّة وأحرج سليم سلام الذي قدم استقالته من رئاسة جمعيّة المقاصد.
يقول سليم سلام في مذكّراته أنّه استفسر من بدر عن حقيقة الأمر، فنفى الأخير وجود علاقة بينه وبين جوليا. لكن سرعان ما تركت جوليا عملها في مدرسة المقاصد، وبعدها بفترة قصيرة تزوجا عام 1913 في القاهرة وأمضيا شهر العسل في أوروبا. ولما عادا قرّرا الإقامة في رأس بيروت قرب ما أصبح لاحقاً الجامعة الأميركية، بعيداً نسبيّاً عن مركز سكن العائلات البيروتيّة في تلك الفترة.
بزواجها من بدر دمشقيّة وإقامتها في بيروت، تحوّلت جوليا طعمة مدرّسة اللغة الإنكليزيّة المسيحيّة المولودة في المختارة في الشوف عام 1883، إلى شخصيّة اجتماعيّة معروفة، تمكّنت سريعاً من غزو قلوب المجتمع المخملي البيروتي، فأنسته قصّة خطفها لقلب بدر من زوجته إبنة العريس، لا بل بدأ البعض يتكلّم عن شجاعة هذا الشاب المناصر للتعايش الإسلامي المسيحي.
مع اقتراب الحرب العالميّة الأولى، بدأ السجال السياسي في بيروت بين المطالب باللامركزيّة مع البقاء داخل السلطنة العثمانيّة، والمطالب بالخروج عن طاعة السلطنة.
في كانون الثاني 1913، عقد اجتماع في مقر بلديّة بيروت في حضور 84 شخصاً توزّعوا مناصفة بين المسلمين والمسيحيين، وأعدّوا لائحة مطالب إصلاحيّة تضمّنت توسيع صلاحيات مجلس الولاية المحلي، على أن تبقى الشؤون الخارجيّة والعسكريّة بيد السلطنة، إضافة إلى اعتماد اللغة العربيّة لغّة رسميّة داخل ولاية بيروت. وتردّد يومها أن بعض المشاركين هدّدوا بالمطالبة بالانضمام إلى متصرفيّة جبل لبنان ما لم يتمّ تلبية مطالبهم.
كما عقد في العام نفسه مؤتمر في باريس قدم مطالب مماثلة لمؤتمر بيروت، وزار وفد ضمّ في عداده سليم سلام اسطنبول لنقل مطالب العرب. لكن تجاوب السلطنة كان هزيلا جداً، ما دفع البعض إلى التفكير في الاستقلال ولو عبر طلب المساعدة من فرنسا.
في منزل بدر وجوليا المشترك في شارع بلس بملك عمر الداعوق، ولدت سلوى عام 1914 ونديم (السفير لاحقاً) عام 1919. وسرعان ما عاد بدر إلى عضويّة مجلس أمناء جمعية المقاصد التي باتت برئاسة عمر الداعوق، وتحوّل منزله المؤلّف من طابقين إلى نقطة التقاء وصالون ثقافي عرف باسم "صالون جوليا"، كان من أبرز المشاركين فيه صاحبا "دار الهلال" إميل وشكري زيدان، يعقوب صروف، أحمد شوقي، خليل مطران، أمين الريحاني، وفارس الخوري من سوريا.
فرنسوا جورج بيكو في بيت دمشقيّة
بعد أهوال الحرب العالميّة الأولى وما جلبته من جوع ودمار، بسط الجيش الفرنسي سيطرته على لبنان، لتبدأ مرحلة سياسيّة جديدة مليئة بالتطوّرات. فقد انقسم اللبنانيون بين المسيحيين المطالبين بإقامة كيان لبناني خاص يكون تحت حماية فرنسا، وبين المسلمين، خاصة من أعيان بيروت السنّة، الذين كانوا يتطلّعون إلى الأمير فيصل بن الحسين الذي أعلن حكومة عربيّة في دمشق.
في خريف 1919، دخل بدر دمشقيّة السياسة من بابها العريض عندما أقام حفل عشاء في منزله على شرف المفوّض السامي الفرنسي فرنسوا جورج بيكو لمناسبة مغادرته لبنان، وشارك فيه العديد من أعيان بيروت المسلمين والمسيحيين. فكيف تجرّأ الوجيه البيروتي السني بدر دمشقيّة على دعوة هذا المسؤول الفرنسي الكبير إلى العشاء، مع أن المزاج البيروتي السنّي كان متوجّساً جداً من الإحتلال الفرنسي الجديد؟
الكلمة التي ألقاها بدر أمام فرنسوا جورج بيكو أكدت تمتّعه بحنكة سياسيّة وبجرأة الوقوف في وجه التيار، داعياً الى التعامل بواقعيّة مع الوجود الفرنسي المستجدّ. فقد انتقد في كلمته "الحكومة المحتلّة" الفرنسيّة، لكنّه قال أمام الكثير من وجهاء العاصمة إضافة إلى المسؤولين الفرنسيين: "ألا تسلّمون معي بأننا إذا كنا متفاهمين مع السلطة (الفرنسيّة) يمكننا إصلاح الكثير من الأمور، فنطالب بما يتوافق مع مصالحنا المشتركة بدلا من سياسة النفور والابتعاد والصياح والإنتقاد؟".
وهكذا يكون بدر قد انتقد أمام وجهاء بيروت "حكومة الإحتلال" الفرنسيّة، لكنّه في الوقت نفسه قدّم أوراق اعتماده إلى السلطة الفرنسيّة عندما دعا إلى التفاهم معها. ففي تشرين الثاني 1919، وصل المفوّض السامي الجديد الجنرال هنري غورو إلى بيروت التي باتت مقرّ القيادة العامة للقوات الفرنسيّة. ولم تعش الحكومة العربيّة المؤيّدة لفيصل في بيروت برئاسة عمر الداعوق سوى 11 يوماً، وباشر الجنرال غورو محاولاته للتقرّب من وجهاء بيروت السنّة، فزار الجامع العمري الكبير لمناسبة ذكرى المولد النبوي الشريف بعد أيام من تسلّمه مهامه.
في أواخر العام 1919، أصدرت السلطات الفرنسيّة قراراً قضى يزيادة إيجار المحلات في وسط بيروت بنسبة 70 % ما أثار غضب التجار، فتشكلّت لجنة فرنسيّة لمعالجة هذه المشكلة كان بدر دمشقيّة في عدّادها للتوسّط مع تجار العاصمة. فكانت المهمّة الرسميّة الأولى التي يعهد بها الفرنسيون إلى بدر.
في خريف العام 1920 أعلن الجنرال غورو دولة لبنان الكبير بعد أن انتصر الفرنسيون في معركة ميسلون على القوات العربيّة، لتنتهي مملكة فيصل بن الحسين وينتهي معها حلم قيام دولة عربيّة موحّدة مستقلّة.
في بيروت ظهرت في أوساط المسلمين السنّة فئة ترفض أي تعاون مع الإحتلال الفرنسي، في حين كان بدر من الفئة الثانية التي تدعو إلى التعامل مع الأمر الواقع إلى جانب عبدالله بيهم وعمر الداعوق وبترو طراد. وعندما تشكّل وفد ضم سليم علي سلام وعبدالله بيهم رئيس جمعيّة التجّار وعمر الداعوق رئيس غرفة التجارة لمقابلة المسؤولين الفرنسيين احتجاجاً على قلّة عدد الموظفين المسلمين في الإدارة اللبنانيّة، كان بدر دمشقيّة في عداد هذا الوفد. في حين تشكّل الوفد المدافع عن حقوق المسيحيين من الفرد سرسق وإميل اده وميشال شيحا.
عرف بدر دمشقية كيف يواكب دخوله مجال الشأن العام بنشاط اجتماعي مكثف قامت به زوجته جوليا، فتحوّل منزله في رأس بيروت إلى صالون تناقش فيه الأمور الثقافيّة والسياسيّة والاجتماعيّة. وفي نيسان 1921، أصدرت جوليا العدد الأوّل من مجلّة "المرأة الجديدة" وكان من أبرز كتابها أمين الريحاني وأحمد شوقي ومي زياده ومخايل نعيمة وحافظ ابراهيم وولي الدين يكن، ولقيت رواجا وشهرة.
وفي مطلع العام 1926 أصدرت جوليا مطبوعة سياسيّة أسمتها "النديم" على اسم إبنها وأخرى للأطفال، لكن كلّ هذا النشاط الصحافي سرعان ما توقف في نهاية العام 1926 بسبب عجز العائلة عن تحمّل الأعباء الماليّة لإصدار هذه المجلات.
بدر رئيساً لبلدية بيروت
في نيسان 1922، أجرى الفرنسيون انتخابات بلدية في بيروت ففاز بدر دمشقيّة بعضويّة المجلس البلدي قبل أن ينتخب رئيساً له في أيار 1922. فعمل على إعادة إعمار وسط المدينة، داعياً إلى توحيد الكلمة في بيروت بقطع النظر عن الفروقات الدينيّة. وفي عهده صدرت الأوامر بشقّ شارع الحمرا امتداداً إلى منطقة المنارة.
الصحف يومها انقسمت بين مؤيّد لعمل البلدية ومعارض لها. فانتقدت جريدة "لسان الحال" الإسراف في النفقات على المشاريع، في حين هاجمت صحيفتا "الحقيقة" و"الرأي العام" المعبّرتان عن المدافعين عن مشروع الوحدة مع سوريا، مشروع إعادة إعمار بيروت واعتبرتا أن القائمين عليه من المتعاونين مع الفرنسيين.
لكن فرحة بدر دمشقيّة لم تدم طويلا، فأصدر الفرنسيون قراراً قضى بتجميد المجلس البلدي وإلغاء منصب رئيس البلديّة، وبات المجلس البلدي يعّين من قبل الإدارة الفرنسيّة. وبقي بدر عضواً في المجالس المعيّنة حتى عام 1929.
ومع بدء النقاش حول دستور دولة لبنان الكبير، كان أيضاً لبدر دمشقيّة موقف لافت، يؤكّد سعيه لإبقاء الخطوط مفتوحة مع جميع الأطراف. فقد شكّل المجلس التمثيلي اللبناني لجنة لدرس مشروع الدستور واستمزاج آراء أعيان البلاد من مختلف الطوائف في طبيعة النظام السياسي الذي يرغبون فيه. لكن أعيان المسلمين اجتمعوا في كانون الثاني 1926 واتفقوا على عدم الرد على أسئلة اللجنة، لأنهم لا يعترفون بلبنان الكبير. وكان بدر من موقّعي الرسالة الموجهة الى الفرنسيين باسم أعيان المسلمين في بيروت.
لبنان كونفيديراليّة !
كانت المفاجأة حين وافق بدر دمشقيّة على الردّ على الأسئلة التي وجّهت إليه ولكن بصفته عضواً في المجلس البلدي. وطالب بأجوبته بألاّ يكون التمثيل النيابي طائفيّاً بل على أساس الكفاءات، وقدّم اقتراحات بجعل لبنان كونفيديرالية على الطريقة السويسرية ما أثار جدلا كبيراً، واتهم بمحاباة الفرنسيين.
ويبدو أن هذه الخطوة المفاجئة كانت آخر تماس له مع العمل السياسي المباشر، ليتفرّغ بعدها لنشاطات تتعلّق بالثروة الحرجيّة وتنشيط السياحة.
عام 1929، سافر بدر إلى ألمانيا حيث اتّفق مع شابة تدعى مارغريت للقدوم إلى لبنان وإنشاء معمل خزف في صوفر. لكن المعمل رغم جودة الإنتاج التي أشاد بها أمين الريحاني في مقالة نشرتها صحيفة "النهار"، أجبر على الإقفال بعد نحو ثلاث سنوات بسبب الخسائر الماديّة المتراكمة. ولم يبق من هذا المشروع سوى قصّة غرام ربطت بين الشاب إحسان، إبن بدر البكر، والشابة الألمانيّة مارغريت التي تزوّجها عام 1935 في الأكوادور، حيث كان إحسان التحق بشقيقته بهيرة وزوجها من بيت عسيران.
عام 1934، نرى اسم بدر عضواً في جمعيّة أنشئت لحماية الثروة الحرجيّة عقدت بعض اجتماعاتها في منزل أمين بشير الجميل والد بيار الجميل في حضور فؤاد غصن وشارل قرم ودونا ماريا سرسق، كما شارك في عضويّة لجنة أخرى انكبّت على درس سبل تشجيع الحركة السياحية.
وفي عام 1936، طلب الرئيس إميل اده من بدر دمشقيّة ترؤّس لجنة لبحث أوضاع النقل في البلاد وصدر مرسوم جمهوري في هذا الصدد. وكانت نتيجة عمل هذه اللجنة كتاباً وضعه بدر دمشقيّة صدر في آذار 1937 حمل عنوان "قضية النقل في سوريا ولبنان"
نديم النجم الصاعد
في مطلع الأربعينات، برز اسم نديم بن بدر وجوليا، خرّيج إقتصاد من الجامعة الأميركيّة في بيروت، عندما عيّن وهو في الثالثة والعشرين من العمر مديراً للاقتصاد الوطني. وفي عام 1944 دخل العمل الدبلوماسي مستشاراً اقتصاديا في السفارة اللبنانية في لندن إلى جانب كميل شمعون الوزير المفوّض في العاصمة البريطانيّة.
في شباط 1945، كان نديم المستشار الاقتصادي في السفارة في لندن يزور بعض الطلاّب اللبنانيين في جامعة أوكسفورد عندما التقى الشابة البريطانية مارغريت شيرلوك التي صارت زوجته وأنجب منها رياض ورامز، الذي دخل أيضاً السلك الديبلوماسي وعيّن لاحقاً سفيراً في المانيا.
يبدو أن بدر تأثّر كثيراً بتدهور الوضع الصحيّ لزوجته جوليا التي لم تعد قادرة على مغادرة الفراش منذ الأربعينات، نتيجة آلام الظهر التي كانت تشلّ حركتها منذ حادثة حصان علي سلام.
وفي السابع والعشرين من حزيران 1952، توفّي بدر دمشقيّة وشيّع في التاسع والعشرين منه، فجاء عنوان جريدة "لسان الحال" في اليوم التالي "وداعاً بدر دمشقيّة" رغم معارضتها لسياساته في الكثير من الأحيان.
بعيداً عن الرغبة المحقّة لعائلة دمشقيّة بتكريم بدر بعد نحو سبعين عاماً على وفاته، قدّم هذا الكتاب أيضاً للبنانيين سيرة رجل سبح عكس التيّار مراراً وتكراراً في فترات تشنّج وتعصّب وانطواء داخل الطوائف والمذاهب، سيرة شخص عرف كيف يكون مرناً وواقعيّاً ومنفتحاً في حياته العامة والخاصة، فخًوّنه البعض وسانده البعض الآخر. سيرة شخص أتقن إطلاق المبادرات الشجاعة بعيداً عن الدعوات إلى العنف والتعصّب في فترة بناء أوطان ورسم حدود واتخاذ خيارات مستقبليّة لأجيال لاحقة.
أين نحن اليوم من خامة رجال تلك المرحلة؟