أقلام حرة

عشاء إسطنبول والهويّة الضائعة

الاحداث- اسطنبول - كتب رشيد قيامي

أمام مشاهد النازحين الأوكرانيين الهاربين من جحيم المعارك الدائرة على أرضهم،  باتّجاه البلدان الأوروبيّة المجاورة ، عادت بي الذاكرة نحو خمسة أشهر إلى الوراء، مستعيدةً حدثاً حصل خلال عشاء عند ضفاف البوسفور، جمعني بالصديقة الإعلاميّة منى غندور، بعد أكثر من عشر سنوات من لقائنا الأخير في بيروت.

في تلك الليلة، طلبتُ من منى إختيار المطعم المناسب. فصاحبة ُ الصوت الدافئ الرخيم، الذي لطالما أسر لسنوات خلت ، مستمعي إذاعة مونتي كارلو، تعرف وسط مدينة إسطنبول أكثر منّي، بعدما كانت قد سبقتني إليها. لذا فضّلت عدم المجازفة وتسليمها أمر إنتقاء المكان.

إبتسمت منى الواثقةُ عادة ً من صحّة خياراتها في هذا المجال ، ومشينا سويّاً في شارع الإستقلال الذي يعجّ بالزوّار، أتأبّط ذراعها وأشاركها الحديث عن ذكريات بيروتيّة قديمة.

ما هي إلّا دقائق قليلة حتّى وصلنا إلى المكان المنشود قرب مَعْلَم " غالاتا تاور " السياحي الشهير. خيارُ منى الجلوس إلى طاولة في الخارج كان أمراً عاديّاً بالنسبة لي ، أنا العارِفُ بعشقها للتدخين ، الذي ترك مسحة ً على جمال صوتها ذي القماشة الحريريّة.

قنّينة نبيذ أحمر، إحتفاءً بالمناسبة ، تربّعت على الطاولة، إلى جانب كأسين ينتظران بفرح طعم العناقيد، حملها نادل لبق طلبنا مساعدته في إختيار طبقين مميّزين.

أشعلت منى سيجارتها وبدأنا حديث الذكريات الذي إمتدّ فترة العشاء.

إلى جانب طاولتنا ، صوتٌ ناعمٌ لشابّة ثلاثينيّة تتحدّث إلى النادل بإنكليزيّة ركيكة شدّ مسامعي. إستأذنتها سائلاً : من أين أنتِ ؟

- لا أعرف.

- لا تعرفين ؟ كيف هذا ؟ كيف يمكن لشخصٍ أن لا يعرف من أي بلد ٍ هو ؟

- حقّاً أنا الأن لا أعرف.

- عذراً ، لكنّني لم أفهم. هل يمكن أن تشرحي لي ؟

- حدث هذا منذ نحو سبع سنوات. فقد نمت على أنّني من بلد معيّن لأصحو على أنّني من بلدٍ آخر.

- منذ نحو سبع سنوات ؟

- نعم.

إصرارُ الشابّة الثلاثينية وجديّتها في الحديث دفعاني للتركيز والتفكير والبحث عن هويّتها الضائعة على حدّ ما تقول.

الموقف الغريب أدهش صديقتي منى التي نظرت إليّ مستطلعة ًحائرة تنتظر ما سأقول.

لم يدم الأمر طويلاً حتّى نظرت إلى الشابّة ذات الملامح الأوروبيّة قائلاً : أظنّ أنّك من جزيرة القرم الأوكرانيّة سابقاً.

إجابة ٌ لم تكن تتوقّعها السائحةُ التي تزور إسطنبول للمرّة الأولى - كما أخبرتنا لاحقاً ـ والتي أبدت إعجابها بالمدينة ذات التاريخ العريق.

ـ كيف عرفت ؟ سألتني.

- الأمر ليس صعباً بالنسبة للصحافيين الذين يتابعون الأحداث على مدار الساعة.

ـ لا يبدو أنّكما تركيّان. هل لي أن أسأل من أين أنتما ؟

- طبعاً ، نحن من بلدٍ صغير إسمه لبنان ، بعض مشاكله مع جيرانه قد تشبه بشكل ما مشاكل موقعكم الجغرافي مع جيرانكم.

عند هذا الحدّ ، وبعد تمنّيات بقضاء إجازة ممتعة وإصرار من قبلي بأن تسمح لنا أن تكون ضيفتنا وأن نهتمّ بحساب عشائها،  إنتهى الحديث مع الشابّة ذات الهويّة الضائعة، والتي أصبح الكثير من الأوكرانيين اليوم يشبهونها في ضياعهم ، نتيجة معادلات سياسيّة لا يفقهون معانيها ، ولا يحلمون سوى بالعودة إلى حالة ما قبل الضياع.