
أنْ تكون "خادمًا"
الاحداث- كتب عقل العويط
في المتداوَل من الكلام، رصينه والمستهتر والبذيء، أنّ بلادنا، مثلما هي، وبمكوّناتها، قد تكون موجودةً بالقوّة الفلسفيّة، وبالتعسّف التاريخيّ، لكنّها مستحيلة الديمومة والاستتباب والمستقبل، في هذه الجغرافيا المشرقيّة المضفورة بالعذابات واللعنات.
يمضي الكلام المتداوَل يائسًا: كلّما حاول بعضهم تجريب شبه المستحيل هذا، وقع في شبه الاستحالة ذاتها، وإنْ بأشكالٍ ووقائعَ مختلفة، على طريقة سيزيف، وصخرته الموصومة باللعنة.
ولأنّ الكلام المتداوَل ممعنٌ في التأويل والتأويل المضادّ، تُرى بلادُنا، في ضوئه، دائمة الولادة والاستحالة، معًا وفي الآن نفسه. وهي مقيمةٌ على هاتَين الحالتَين المتنافرتَين، مرّةً بسبب عبقريّة الاجتراح، ومرّةً بسبب ضحالته. واللبنانيّون، على تناقضهم وتنافرهم، تقع عليهم مسؤوليّتا الاجتراح والضحالة. فليس لأحدٍ أنْ يتملّص من دور الاجتراح، ومن ذنب الضحالة. وهما دورٌ لا يُغتَفَر النكوص عنه، وذنبٌ لا يُغتَفَر ارتكابه.
يصحّ وصف بلادنا بأنّها "جرحٌ تكوينيٌّ". هذا يتطلّب من أصحابها وورثتها أنْ يتعاطَوها، باعتبارها جرحًا تكوينيًّا، لا باعتبارها مَدًّا وجَزْرًا، أو حالةً طارئةً ومتغيّرة.
ليس لأحدٍ خيارٌ في هذا الجرح التكوينيّ. وإذا أُعطيَ المرء، أمواطنًا عاديًّا كان أم مسؤولًا، أنْ يختار، لوجب عليه اختيار "الخدمة" (الوطنيّة العامّة) بلا مقابل، وبلا تردّد، مستحسنًا الكَرَم المجّانيّ الاجتراحيّ برمّته، منحازًا إليه، ومفضّلًا إيّاه على أيّ فعلٍ، قد يفضي إلى الاشتراك في مسرح الأذى اللبنانيّ، قصديًّا أو عفويًّا.
يحضر أمامي، عنوان "لعنة لبنان"، وهو كتابٌ عن حروب لبنان واللبنانيّين يصدر قريبًا للكاتب الألمعيّ محمّد أبي سمرا. ليس من حرجٍ البتّة في أنْ يعترف المرء بأنّه مصابٌ بهذه "اللعنة"، فإمّا يقول بإلحاحٍ تراجيديّ: لا خيار لي في هذه اللعنة، ولا شفاء لي منها، وها أنا أتقبّلها بمزيجها المأسويّ (النقمة والنعمة)، باعتبارها "جرحًا تكوينيًّا".
... وإمّا يعلن أنّه يئس منها، ولم يعد معنيًّا بها، ولا يريدها، فينسحب منها.
الآنفُ ذكرُهُ، معبَّرًا عنه بالانخراط في "الجرح التكوينيّ"، يتطلّب وعيًا وجوديًّا، وعلوًّا أخلاقيًّا، والتزامًا تنفيذيًّا. وإنّما الانخراط فيه يُجتَرَح اجتراحًا، ويُستَحَقّ استحقاقًا، بالاعتقاد والاجتهاد والكفاءة والصبر والمرونة والكِبَر ورحابة القلب والعقل، كما بابتداع المخارج والحلول.
قد تكون الفرصة الموضوعيّة متاحةً للانفكاك عن "اللعنة". إنّما تقع مسؤوليّة اجتراحٍ (تاريخيٍّ) كهذا، على الذين طلبوا لأنفسهم الاضطلاع بهذه "الخدمة"، ولا سيّما مَن ارتقوا مراتب السدّة، وأُوكِلت إليهم مهامّ الاجتراح الوطنيّ، وخصوصًا في اللحظة الوجوديّة العصيبة. فهم مدعوّون إلى تقبّل مشقّات "اللعنة"، وتذليل كلّ ما لا يتناسب ومعايير المسؤوليّات العظمى: أي على طريقة المترفّعين والزاهدين بالذات، لا، كما حصل قبل أيّام، على طريقة ممارسات الأطراف الضالعين في مسرح الأذى، من أهل الضحالة، الرابحين والخاسرين (وشذّاذ التواصل الاجتماعيّ وجيوشه).
الرئاسات اجتراحٌ، واستعلاءٌ على ربحٍ وخسارةٍ، واستنكافٌ عنهما. وهذا يجب أنْ تسري مفاعيله، لا على "خادمٍ" واحدٍ فحسب، بل على "الخادمين" جميعًا. التاريخ لن يتهاون مع أحد. ولن يسامح. ولا استثناء.