من الصحف

نظرية "الديون الجائرة": "زكزكة سياسية" أم طرحٌ يمكن الإفادة منه؟

الأحداث - كتبت سلوى بعلبكي في صحيفة النهار تقول : اذا كانت الأوساط السياسية قد تفهمت "الرد السياسي" لرئيس "التيار الوطني الحر" النائب جبران باسيل الاحد الماضي دفاعا عن دوره وتياره، والذي أتى في سياق الصراع المفتوح والتهجمات المتبادلة بينه وبين الرئيس المكلف سعد الحريري، على خلفية ملف تشكيل الحكومة ، ومَن يمسِك بـ"رقبتها"، إلا أن ما لم تفهمه تلك الاوساط هو اندفاع باسيل باقتراحه التمنع عن تسديد الدين اللبناني الذي وصل حتى نهاية تشرين الثاني 2020 الى 95.5 مليار دولار (65% دين داخلي و35% دين خارجي) ودعوته الى تطبيق نظرية "الديون الجائرة".في افتراض أن الطرح الذي ساقه باسيل جدي وليس من باب "الزكزكات"، واطلاق غير مباشر للنار السياسي على الحريرية الاقتصادية ودورها، واشخاصها الاحياء منهم والاموات، ومن انخرط الى جانبهم في مشروع اعادة الإعمار خصوصا منذ التسعينات حتى يومنا هذا. هل يعي باسيل، في حال السير بهذا المشروع، أن على الدولة اللبنانية الاثبات رسميا وبالمستندات عمليات النهب المنظم التي تعرضت لها المالية العامة في لبنان بعد انتهاء الحرب الأهلية، عبر تحقيق قضائي ومحاسبي، لو قيّض لأحد القدرة على تحقيقه، سيستغرق سنوات مديدة، ولا يملك لبنان المنهك ترف هذا الإنتظار. كما على الدولة اثبات ان الشعب اللبناني لم يفد من هذه الديون أو القروض والتسليفات الممنوحة لإعادة بناء البنية التحتية، وستكون في مقدم التحقيقات معضلة "الكهرباء" التي صرفت عليها الدولة عشرات مليارات الدولارات، ولم تتمكن من حلها، والتي كان للتيار العوني حصة في ادارتها منذ العام 2008 حتى اليوم.
من قواعد نظرية التمنع عن تسديد "الديون الجائرة" أنه "يحق لأي شعب ألا يدفع الديون المترتبة عليه إذا ثبت أنه توجبت عليه، أو أخذت خلال عهد وصاية أو احتلال"، فهل سيتجرأ باسيل بالادعاء على الدولة السورية التي كانت "وصية" على لبنان وتديره مباشرة عبر ضباطها الامنيين، الذين تضج المعلومات عن حجم الثروات التي جنوها، وبمؤازرة من معظم القوى والشخصيات السياسية والامنية في لبنان؟ ومعلوم للقاصي والداني حجم الرعاية والمشاركة الكبيرة للنظام السوري في رعاية الفساد السياسي والمالي في لبنان طوال 15 سنة، واستفادة الدولة السورية اقتصاديا، اضافة الى عمليات التهريب المنظم عبر الحدود بين البلدين وما سببه من استنزاف كبير لاحتياط العملات الصعبة في مصرف لبنان، ولا تزل الاسواق السورية تعج حتى اليوم بالمستوردات المهربة من لبنان والمدعومة أسعارها من مصرف لبنان.
تكرار لحملة "لن ندفع ديون لبنان الجائرة"؟
المراقبون للمؤتمر الصحافي لرئيس "التيار الوطني الحر"، اعتبروا أنه لم يأتِ بجديد في اطلالته الاخيرة، فهو ادغم في سياق رده السياسي على الرئيس الحريري تمريرة اقتصادية سبق له ان طرحها مقربون منه وتحديدا ميشال ألفتريادس المرشح لمقعد وزاري على لائحة التيار في الحكومة العتيدة. ألفتريادس كان قد اطلق في العام 2008 حملة "لن ندفع ديون لبنان الجائرة" والتي شكلت حينها "نقزة" لدى الاقتصاديين خوفا من الذهاب بلبنان الى وضع ينظر اليه كدولة فاشلة عاجزة عن تسديد ديونها الخارجية، وتحطيم صدقية لبنان التاريخية، وهو المعروف بالتزامه تسديد جميع ديونه وقروضه ومتوجباته الدولية حتى في أحلك ظروف الحرب الاهلية. وأكثر من ذلك، فإن خبراء كثيرين يعتبرون ان طرح باسيل فكرة الغاء "الديون الجائرة" لا يمكن السير بها في لبنان، خصوصا أنه يعرف أن شظايا أي تحقيق جدي ستطاول كل الطبقة السياسية في لبنان وستشمل جميع الحكومات المتعاقبة من 1990 حتى اليوم، وكذلك الديون التي ترتبت على لبنان بما فيها قروض "باريس 1 و2 و3". ويؤكد هؤلاء ان الغاء "الديون الجائرة" وموافقة المجتمع والمؤسسات الدولية على هذه الخطوة، سيتطلب حكماً إصدار أحكام قضائية شفافة بحق مرتكبي الفساد، كما الطبقة الحاكمة التي كبدت البلاد ديونا وصلت نسبتها إلى أكثر من 170% من الناتج المحلي الاجمالي، فهل يأمل باسيل في ان أحدا يمكنه ان يصدق أننا سنصل الى هذه المرحلة؟
ما هي الديون الجائرة وهل تنطبق على لبنان؟
وفق شرح "ويكيبيديا" فإن "الدَّين البغيض (Odious debt)"‏، معروف أيضا باسم الدين غير الشرعي، هو مصطلح في القانون الدولي، يشير إلى نظرية قانونية تقول بأن الدين الوطني الذي يقترضه النظام لأغراض لا تخدم مصالح الأمة لا يجوز الايفاء به. 
بدأ مفهوم "الديون الجائرة" يتبلور في بداية القرن الماضي عندما كتب عنها المفكّر الروسي ألكسندر ساك، متناولا حالات في القرن التاسع عشر منها، مثلا، تمنع المكسيك عن سداد الديون التي رتبها على الدولة الامبراطور مكسيميليان. وبحسب نظرية ساك، فإن هذه الديون ينبغي ألا تكون قابلة للتسديد قسرا عندما تغيب عنها الشرعية، أي عندما تجتمع فيها الشروط الآتية: أن يعلم الدائن (أي المقرض) أن المدين (أي الدولة، هنا) غير قادر على التسديد أصلا، وعندما يتم القرض من دون موافقة الشعب (وهنا جدل حول شرعية ممثليه) وأخيرا عندما لا يكون الدين لمصلحة هذا الشعب، أي عندما لا يخصص، مثلا، للبنى التحتية وتطوير الخدمات وخلق فرص عمل. هكذا، مثلا، رفض الاتحاد السوفياتي عند نشوئه تحمّل ديون الزمن القيصري، وكذلك تم قبل ذلك تحميل الاستعمار الاسباني لكوبا مسؤولية ديونها. لكن الأمر لم ينجح دائما، كما الحال في أفريقيا الجنوبية بعد انهيار نظام التمييز العنصري ("الأبارتايد").
لكن ثمة أمثلة أخرى في التاريخ الحديث، منها امتناع فرنسا وبريطانيا في ثلاثينات القرن الماضي عن سداد بعض الديون، وأكثر الأمثلة أخيرا هي عندما نجح رئيس الإكوادور رافايل كورّييا في خفض قيمة دين بلاده بعد تسلّحه بنظرية "الديون الجائرة".
وفق الوزير السابق المحامي زياد بارود فإنه "في القانون الدولي ليس ثمة ما يسمح للدول بأن تتنصل من موجباتها ولو تغير النظام فيها، لأن الحكم إستمرارية، في المبدأ، ولكن نظرية الديون الجائرة تأتي هنا بمثابة الاستثناء لهذا المبدأ ضمن الشروط اعلاه. وكما في القانون المدني، على سبيل القياس، حيث لا يستطيع المدين أن يتنصل من تسديد دينه إلا في حالات ضيقة واستثنائية للغاية، فإن عدم تسديد الدولة لديونها لا يمكن أن يحصل إلا إذا كانت هذه الديون جائرة فعلا. ولكن من يقرر ذلك؟ الدولة ذاتها؟ حسنا، ولكن عدم قبول الدائنين يبقي المشكلة قائمة، لذلك نرى في حالات مماثلة عبر العالم أن التسلح بهذه النظرية وإثبات قيام عناصرها يمكّن الدولة من التفاوض مع مجموع الدائنين من موقع القوة، وقد تتمكن الدولة من التوصل إلى تسوية تقضي بخفض تلك الديون بعد وقف موقت لتسديد الفوائد، وصولا إلى ما يعرف بإعادة هيكلة الدين". 
فهل يمكن ان تطبق هذه النظرية على لبنان؟ يقول بارود: "إن الدين العام التراكمي بلغ أرقاما خيالية قياسا بمقدرات البلد ومداخيله. هذا الدين حصل ظاهريا على موافقة الشعب عبر موافقة ممثليه في المجلس النيابي، وعبر قوانين إبرام القروض، ولكن لم يحصل على شرعية شعبية واضحة. والواضح ان استخدامات الأموال الواردة بالقروض لم تؤد إلى تطوير ملحوظ للبنى التحتية والصحة والتربية وسوق العمل، بل فاقمت التضخم وشابها فساد وهدر لا يشك أحد في حصولها". أمام هذا الواقع، يعتبر بارود ان "نظرية الديون الجائرة، وعلى رغم عدم احتلالها موقعا ثابتا في القانون الدولي، إلا أنها تبقى رائجة ومتداولة وتستطيع الدولة اللبنانية من خلال التسلح بها أن تفاوض على الأقل سائر الدائنين في اتجاه خفض المعدلات وإعادة جدولة الاستحقاقات، وهذا أمر ينبغي أن يكون جزءا من أي مقاربة لإعادة النهوض".
أما الاستاذ الجامعي غسان علي سلامة الخبير بالعمليات المصرفية، فيشرح أن "الدين الجائر هو الدين الذي تتحمله السلطة السياسية كأفراد طبيعيين وليس الدولة كشخص معنوي، كون هذه الديون لم يفد منها المواطن عموما".
ولكن في لبنان، "فإن القسم الاكبر من الديون هو داخلي وليس خارجيا. وفي حال طبقنا مفهوم الديون الجائرة نستنتج ان المودعين، وتحديدا الكبار منهم، قد افادوا من هذه الديون (فوائد سندات خزينة، قروض ميسرة...)"، يقول سلامة. واذا وضعنا جانبا الواقع السياسي منذ ما بعد الحرب، فإن سلامة لا يوافق على تطبيق مفهوم هذه الديون في لبنان، وتاليا "يجب ان يتحمل كبار المودعين جزءا من اطفائها".
وبرأي سلامة ان السلطة في لبنان "ستسعى الى الغاء هذه الديون كي لا تتحملها السلطة المالية وهي السياسية في الوقت عينه، إذ لا يمكن فصل السياسة عن الاقتصاد... اما اذا سعت الى تحميل هذه الديون لصغار المودعين، فهذا يعني انفجارا اجتماعيا".
في ظل غرق لبنان اقتصاديا واجتماعيا وانهيار مريع للعملة الوطنية، وفي ظل التعويل الكبير على دور المؤسسات الدولية وفي مقدمها صندوق النقد الدولي والدول الصديقة في مد لبنان بقروض ومساعدات وسيولة للخروج من الإنهيار، وهو ربما الحل الاوحد حاليا، ساد الاستغراب لدى معظم المحللين والعاملين في قطاع المال والاعمال عن مدى جدية هذا الطرح اولا، وعدم الاتعاظ من صدمة تمنّع الحكومة عن تسديد سندات اليوروبوند اخيرا. فهذا الطرح وفق اعتقادهم سيزيد مخاوف المدينين والمستثمرين في السندات اللبنانية وجلّهم من المغتربين اللبنانيين الذين أفنوا اعمارهم في العمل خارج لبنان لتأمين ما يستر آخرتهم والنهوض بعوائلهم، اضافة الى مستثمرين من صغار المترسملين الذين لا يزالون يأملون بحل يعيد ولو جزءا من استثماراتهم.
======