من الصحف

مصرف لبنان يتخطّى صعوبات 2024: ينجح نقدياً وينال الثقة دولياً

الاحداث- كتبت صحيفة النهار تقول:"لم يكن عام 2024 عادياً عابراً في الرزنامة اللبنانية، بل يُمكن تصنيفه في خانة أصعب السنوات التي مرّت على لبنان، بكل مقاييسها الاقتصادية والأمنية والسياسية، خصوصاً أن الحرب المدمّرة التي احتدمت بين إسرائيل و"حزب الله" طيلة أكثر من شهرين، بعد مواجهات نارية امتدّت تحت عنوان "إسناد غزة"، منذ تشرين الأول عام 2023، لغاية وقف النار خلال الشهر الماضي، سبّبت كوارث في البلد، بشرية ومادية، لن يخرج لبنان من تداعياتها المؤلمة بسهولة. 
كانت المؤسّسات اللبنانية تواجه امتحاناً صعباً للغاية، ولم تخرج سالمة في كل قطاعاتها، لكنّ مصرف لبنان المركزي استطاع اجتياز الامتحان بنجاح، نتيجة سياسة نقدّية أثبتت صوابيتها، بعدما حدّد مساراتها حاكم المصرف بالإنابة وسيم منصوري منذ اليوم الأول لتسلّمه، انطلاقاً من معادلة وقف تمويل الدولة التي أثمرت وقف النزف، وجهوزية "المركزي" النقدية في زيادة الاحتياطي بالدولار، وتثبيت الاستقرار. 
وإن كانت سنة 2024 حملت تصنيف لبنان في اللائحة الرمادية من قبل مجموعة "فاتف"، فإن المجتمع المالي الدولي حيّد مصرف لبنان عن التداعيات، بعدما التزم "المركزي" والقطاع المصرفي اللبناني بالشروط والمعايير الدولية، ليتجاوز مصرف لبنان هذا الامتحان أيضاً. 
أظهرت وقائع الزيارات الهادفة التي قام بها منصوري لواشنطن، باريس، لندن، الرياض، أبو ظبي، وعواصم أخرى، أن "المركزي" استعاد مكانته الدولية، ليفرض حضوره الطبيعي في دورة العلاقات المالية العالمية، نتيجة لقاءات عقدها الحاكم بالإنابة في عواصم العالم مع مسؤولي وحكّام ومحافظي المصارف العربية والأوروبية والأميركية، لوصل ما كان قد انقطع خلال السنوات الأخيرة الماضية بين بيروت وتلك العواصم، استناداً إلى التزام لبنان بكل المعايير النقدية الدولية. وقد نجح منصوري في تأجيل إدراج لبنان على القائمة "الرمادية" مرتين، كانت بمثابة المهلة التي انكبّ خلالها على تصحيح الخلل في مصرف لبنان، فاستفاد من فترة التأجيل، بعكس مؤسسات أخرى، فنفّذ "المركزي" والقطاع المصرفي شروط "فاتف"، وخصوصاً في معالجة إشكالية cash economy، ونتيجة لذلك جرى تحييد "المركزي" والمصارف عن تقرير المجموعة الدولية، بل تمت الإشادة بإنجازاتهم في الامتثال: لم تتطرق "فاتف" إلى "الكاش" في نقاطها العشر ضمن التقرير حول لبنان. 
كان التحدي الأخطر داخلياً، يوم أعلن منصوري وقف تمويل الدولة، ليتبيّن خلال عام 2024، أن القرار أنتج محافظة على الاحتياطي بالدولار، بعدما كان عُرضة لنزف حاد على مر السنوات الماضية. لكن الخطوة لم تكن لتحقق نجاحاً، لولا تنظيم مالية الدولة بالتعاون مع مصرف لبنان، وتفعيل الجباية، وزيادة مداخيل الخزينة وضبط الهدر. كلها عوامل أوقفت العجز المالي، فحقّقت الحكومة فائضاً مالياً بقيمة 600 مليون دولار في عام 2024، بعدما كان العجز يصل سنوياً إلى حدود 7 مليارات دولار في السنوات الماضية. 
وجاء إلغاء كل أنواع الدعم العشوائي، الذي صرف سابقاً ما يزيد عن 11 مليار دولار، بالتوازي مع تنظيم "المركزي" حسابات الوزارات، وجدولة أرقامها وقدراتها ومداخيلها وميزانياتها، بحيث أصبحت كل وزارة منضبطة في الأطر المحاسبية، وخاضعة لمقاييس الموازنة العامة، وغير متفلتة، فشكّلت سنة 2024 نموذجاً صلباً، يُثبت أن الإصلاح في لبنان ممكن، حين تتوافر الإرادة والقرار، علماً بأن مصرف لبنان أعطى الحكومة ووزاراتها عند الطلب منه، كل الأموال التي تملكها، من دون أن يضع قيوداً أو يؤخر الصرف، كما دفع مستحقات الشركات والمتعهدين والمؤسسات. 
في الناحية الأهم، فرض مصرف لبنان استقراراً نقدياً، وثبّت سعر الصرف طيلة العام المنصرم، امتداداً للنصف الثاني من عام 2023، نتيجة ضبط السوق ومنع أي تلاعب، واعتماد سياسة بيع الليرة مقابل الحصول على دولار من السوق. 

وتكمن أهمية إمساك مصرف لبنان بتلك العمليات، لا فقط في ضبط الاستقرار، بل في رفع الاحتياطي بالدولار الذي بلغت زيادته لغاية تشرين الأول عام 2024 حوالي ملياري دولار، وتحقيق توازن ما بين الاقتصاد "المدولر"، والاقتصاد بالليرة، وترسيخ قاعدة انطلاق لبناء اقتصاد صحيح. 
تلك الزيادات شكّلت عنصر أمان نقدي في لبنان، في السلم والحرب. فأجرى "المركزي" تعديلات استثنائية في التعاميم لزيادة الدفعات للمودعين (ثلاثة أضعاف ثم ضعفَي القيمة الشهرية)، وأبقى على دفع الرواتب للموظفين بالدولار، وخفّف الضغط عن الليرة. وبحسب المعلومات ستحمل انطلاقة العام الجديد تعديلاً دائماً لزيادة نسبية على دفعة التعاميم الشهرية، علماً بأن المستفيدين من تعاميم مصرف لبنان بلغ حتى الشهر الجاري حوالي 450 ألف مستفيد، بدفعات وصلت لغاية نهاية هذا العام، إلى مليارين و600 مليون دولار.  
انتظمت العلاقة بين "المركزي" والمصارف، وباتت تخضع لمقياس واحد، فلا استثناءات ولا تمييز. وسجّل عام 2024 تثبيتاً لسعر صرف واحد بموجب التعميم 167، جرت على أساسه ميزانيات المصارف، وتقييم العقارات لديها، وتجاوز الإشكالات التي كانت تواجه المدقّقين، وتنظيم القطاع بما يتلاءم مع المعايير الدولية، في جهوزية تامة لتطبيق قانون إعادة الهيكلة عند إقراره. 
ألزم مصرف لبنان المصارف بأن تكون كل أموال fresh التي توضع لديها في خزائنها، بحيث يُمنع استخدامها أو توظيفها، وهو ما يطمئن اللبنانيين إلى عدم تكرار التجارب السابقة، بانتظار بت قضية المودعين جذرياً، علماً بأنّ "المركزي" ألزم المصارف بإعادة فتح الحسابات التي كانت قد أقفلتها تعسّفاً، وبإعادة قبول الشيكات للمودعين التي كانت قد أُعطيت لهم. كما سجّل العام 2024 تقدّماً في تجهيز ملفات المودعين استعداداً للحلّ المرتقب لقضيتهم عبر قانون يصدر عن المجلس النيابي. 
بالتوازي، كان مصرف لبنان يشهد تنفيذ ورشة داخلية إصلاحية على مدى شهور العام المُنصرم، على قاعدة الحوكمة في كل الصُعد، وخصوصاً الحاكمية والمجلس المركزي. باتت ميزانية المصرف تُنشر كل 15 يوماً، وأُلغيت الموجودات الأخرى التي كانت سابقاً توضع فيها خسائر المجلس، ووُضعت موازنة وفقاً للمعايير الدولية للمصارف، وبالتعاون مع صندوق النقد الدولي، الذي أقرّ مسؤولوه ألا وجود لخبايا في مصرف لبنان، حيث تسود الشفافية المُطلقة. 
كذلك ازداد التشدّد في التدقيق الداخلي، وتفعيل التدقيق الخارجي، عبر تحديث الوسائل التي تتطابق مع المعايير الدولية، لتترسّخ المأسسة المُستدامة في "المركزي"، ولن تتأثّر بتغيير حاكم أو مجلس مركزي.