خارج الحاكمية وقبل السجن: مراجعة ذاتيّة وإنكار للأخطاء
الاحداث- كتبت سابين عويس في صحيفة النهار تقول:"في الأول من آب ٢٠٢٣، ومع انتهاء ولايته على رأس حاكمية المصرف المركزي، لم ترتضِ قلة من الأوفياء أن يغادر الحاكم مكتبه الذي أقام فيه لثلاثة عقود من دون زفّة، ولا سيما أنها كانت المرة الأولى التي يخرج فيها الرجل منذ انتفاضة ١٧ تشرين وانهيار نظامه النقدي والمصرفي، من دون أن يكون متخفياً لدواعٍ أمنية فرضتها الاستهدافات الشعبية الغاضبة له، كما الادعاءات القضائية المقامة في حقه.
لم تمضِ أيام قليلة حتى أدرجت الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وكندا في العاشر من آب، الرجل على قائمة العقوبات في خطوة ترجمت رفع الغطاء الدولي عن صاحب الأوسمة والجوائز وحامل لقب أفضل حكام المصارف المركزية في العالم.
بدا العالم كله في تلك اللحظة منقلباً على سلامة، تحت وطأة سلسلة لا تنتهي من الاتهامات والدعاوى التي سقطت الواحدة تلو الأخرى على رأسه، وكانت في حجمها ومضمونها كافية لأن تسقط كبار الرؤوس وأعتاها، إلا أنها لم تفقد الرجل رباطة جأشه التي اكتسبها حتماً من قيادته للحاكمية على مدى ثلاثة عقود شهدت خلالها البلاد محطات خطيرة ودامية وسلبية عديدة.
ربما كانت تلك القدرة على تحمّل الصدمات من الصفات التي جعلته ينجح في الحفاظ على موقعه والتصدي لكل الاستهدافات التي واجهته، حتى بعدما خرج مكسوراً من مكتبه في المصرف المركزي، أو مطأطئ الرأس بعد توقيفه أخيراً واقتياده إلى سجنه الانفرادي في انتظار انتهاء التحقيقات معه.
رغم كل الدعاوى المرفوعة في حقه في لبنان والخارج، استمر الحاكم السابق في تمضية حياته خارج أسوار المصرف المركزي، متنقلاً بين منزليه في الرابية والصفرا حيث قرر الاستقرار هناك على شاطئ البحر الذي أتاح له فسحة من الاسترخاء والاستمتاع بممارسة رياضة السباحة والمشي على ما يقول زواره من الأصدقاء المقربين منه الذين عكفوا على زيارته ولم ينقطعوا عنه، وهم يمثلون الدائرة الصغرى التي تضم رجال أعمال وصحافيين وأقرباء ومستشارين ومحامين.
وإن كان قرار حظر السفر منعه من مغادرة البلاد، فإن إقامته فيها لم تخلُ من وسائل الراحة وسط تطمينات سياسية بأنه خارج دائرة الاعتقال. نُقل عنه بعد مغادرته المصرف المركزي أنه أعدّ "فلاش ميموري" ضمّنها كل أسرار صندوقه الأسود، معتقداً أنها جواز سفره إلى الأمان، لكونه أودعها خارج لبنان، مجيزاً استعمالها إذا ألمّ به أيّ مكروه.
لم يلمس زوار سلامة لديه أيّ خيبة أو خوف على المستقبل. يقول بعضهم إن الرجل صاحب "البوكر فايس" لا يسمح لأحد بالاطلاع على مكنونات عقله وقلبه. فهو دائم التماسك حتى لو كان في أسوأ أحواله. أحد الذين رافقوه في المصرف المركزي على مدى أعوام طويلة يقول "أحياناً اشعر بأنني أعرفه تمام المعرفة، لأكتشف لاحقاً أنني لا أعرفه البتة!".
في جردة الحساب للتجربة التي خاضها على رأس الحاكمية، يلمس بعض من التقاه عدم الاعتراف بأي أخطاء أو ارتكابات تُنسب إليه، وكأنه يعيش في حالة إنكار تام للواقع أو لحجم الاتهامات الموجهة إليه أو حتى لخطورتها. يعلق أحد أصدقائه على ما تردّد أخيراً بأنه بكى عندما وُضعت الأغلال في يديه وسيق متهماً إلى السجن، بالقول "أقطع رأسي إن كان هذا الكلام صحيحاً. رياض لا يمكن أن يبكي، ولا يمكن أن أصدق ذلك حتى لو رأيته بأمّ عيني". لكنّ الواقع ليس كذلك، لأنه في الحقيقة فشل في إخفاء حالته النفسية وخانته دموعه التي انهمرت على وجهه، عاكسة حجم الخوف والقلق، خصوصاً أنه توجّه مطمئناً إلى مكتب المدعي العام التمييزي على أساس خلوّ الملفّ من أيّ دلائل ليفاجأ بأن التحقيقات كانت في مكان آخر كليّاً. لم يكن ليظن أن ملفّ الاستشارات والعمولات التي لا تتجاوز ٤٠ مليون دولار يمكن أن تسوقه إلى السجن، فيما كل الاتهامات والدعاوى الأخرى تتجاوز مئات الملايين من الدولارات، وهي لا تزال في إطار التحقيق.
تعكس تعليقات أصدقائه القدرة العالية التي كان يمتلكها سلامة حيال إظهار مكامن قوته، وعدم السماح للآخرين بتلمّس أي مواقع ضعف أو استسلام يمتلك هو وحده التوقيت الملائم لتنفيسها. هو حتماً يعي الآن أنه بات وحيداً في معركته، بعدما تراجعت كل وسائل الدعم السياسي التي توافرت له على مدى عام كامل. ينقل عنه بعض الزوار اقتناعه بأن توقيفه يعود إلى أسباب سياسية محضة، تماماً كما كانت الحملة عليه، رافضاً الاعتراف بكل ما يطلق ضده من اتهامات، يضعها في خانة الاستهداف السياسي. لا يعترف بالمستندات والقرائن التي يواجه بها. يذهب أبعد في اتهاماته ليرى أن الاستهداف لا يقتصر على الداخل بل هو خارجي ويحمّل مسؤوليته للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي توسّط لدى الأميركيين لرفع الغطاء عنه، على ما تذكر رواية الزوّار (التي لا يمكن التأكد من مدى صحّتها).
من المنزل المطلّ على البحر إلى زنزانة من بضعة أمتار، تسعى إلى توفير الحدّ الأدنى من الرفاهية التي لا تقارن حتماً برفاهية حياته السابقة. على الأقل، لم تحرمه الباحة الخارجية على صغر مساحتها، من الاستمتاع بتدخين السيجار أو قراءة بعض الكتب التي طلبها وسط سؤال يُطرح اليوم في الأوساط المختلفة، حيال مصير الرجل الذي حكم لبنان بنقده الوطني، وتحكّم بمدّخرات شعبه، محققاً لنفسه شعار الاستقرار حتى سقطت الشعارات والجوائز (المدفوعة على الغالب). هل التوقيف وسرية التحقيق لحمايته وإنقاذه أم لإسقاطه؟ وهل سيبقى سلامة متماسكاً أم تخونه أعصابه وربما صحّته؟؟